إسرائيل تحتجز مئات الجثامين وترامب يرى «الجنون» في مكان آخر

هناك مفارقة لافتة في وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب احتجاز «حماس» الجثث بأنه «تصرف لا يقوم به سوى المرضى والمختلين»، فهذا الرئيس الذي يبدو أنه لا يعرف شيئاً عن طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الممتد لعقود، فاتته نقطة مهمة هنا، هي أن إسرائيل تحتجز منذ عام 1967 جثامين 665 شهيداً فلسطينياً وعربياً في ما يُعرف بـ«مقابر الأرقام»، حيث تُدفن الجثث دون تحديد هوياتها، وتُمنع عائلاتهم من استلام رفات أحبائهم.
تتبع إسرائيل هذه السياسة بشكل ممنهج بهدف استخدام جثامين الشهداء كورقة مساومة في أي مفاوضات لتبادل أسرى مستقبلية، بشكل يتناقض مع المعايير الإنسانية والأخلاقية. وعلى مدار العقود الماضية كانت هذه القضية تنال انتقادات واسعة من قبل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، إلا أن إسرائيل تضرب بكل هذه الانتقادات عرض الحائط.
وكانت صحيفة «هآرتس» العبرية قد كشفت في تقرير لها نشر في تموز الماضي، أن السلطات المعنية في دولة الاحتلال تحتجز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين لم تعرف هوياتهم، وأن تلك الجثامين كانت تخزن في حاويات مبردة داخل القاعدة العسكرية المعروفة باسم «سديه تيمان» السيئة السمعة، وصُنِّفوا بالأرقام وليس بالأسماء.
وذكرت الصحيفة أن حالة الجثامين وصلت إلى مرحلة معينة من التحلل، بعضها مفقودة أطرافها وبعضها بلا ملامح.
سياسة انتقائية وظلم مستمر
انتقدت لطيفة أبو حميد، والدة الشهيد الأسير ناصر أبو حميد، الذي تحتجز إسرائيل جثمانه منذ عام 2022، تصريحات ترامب معتبرةً أنها تعبّر عن انحيازه الأعمى لدولة الاحتلال الإسرائيلي وتهدف لحرف أنظار العالم عن جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.
وقالت أبو حميد التي تسكن بمخيم الأمعري قرب رام الله لـ«الأخبار»: «ترامب يتحدث عن الأخلاق؟ أين كانت معاييره حين احتجز الاحتلال جثمان ابني ناصر ويرفض حتى اليوم تسليمه لنا لدفنه بكرامة؟»
واستشهد الأسير ناصر أبو حميد (عن عُمر 50 عاماً) في 20 كانون الأول 2022 داخل مستشفى إسرائيلي، بعد صراع مع سرطان الرئة الذي تفاقم بسبب الإهمال الطبي في السجون الإسرائيلية. ورغم المطالبات الفلسطينية والدولية بالإفراج عن جثمانه، أعلنت إسرائيل احتجازه في خطوة وصفها حقوقيون بأنها جزء من سياسة العقاب الجماعي.
تقول والدته بحسرة: «ابني عانى في السجن من المرض والإهمال الطبي، وحين مات لم يكتفوا بذلك، بل احتجزوا جثمانه. أي وحشية أكبر من هذه؟»، ثم تضيف: «إن كان ترامب يرى أن احتجاز الجثامين جنون، فلماذا لا يطالب إسرائيل بالإفراج عن ابني؟ أم أن الأخلاق تُستخدم فقط عندما يكون الأمر لمصلحة الاحتلال؟».
لطيفة أبو حميد، التي قدمت اثنين من أبنائها شهداء وأربعة آخرين في الأسر، تمسح دموعها وتختم قائلة: «لو كان ابني ناصر إسرائيلياً، لكانت الدنيا قامت ولم تقعد. ولكن لأنه فلسطيني، فإن احتجاز جثمانه يُعتبر أمراً عادياً. ومع ذلك، لن نتوقف عن المطالبة بحقه... فحتى الموتى يستحقون العدالة».
أوراق مساومة
مرّ ملف احتجاز جثامين الشهداء بتحولات قانونية، ففي عام 2017 قررت ما تسمى بالمحكمة العليا للاحتلال تأجيل قرارها المتمثل ببطلان احتجاز جثامين الشهداء، وذلك حتى تتيح الفرصة أمام الجهات الإسرائيلية المعنية بسنّ تشريع واضح وصريح يخوّل القيادة العسكرية والشرطية لاحتجاز الجثامين.
وأصدرت المحكمة العليا للاحتلال في أيلول 2019، قراراً يجيز للقائد العسكري احتجاز جثامين الشهداء ودفنهم على نحو مؤقت لاستخدام الجثامين أوراق ضغط لغرض التفاوض، وفُرِضَت شروط فضفاضة تخوّل الأجهزة المشار لها سابقاً بإصدار أوامر احتجاز جثامين بعض الشهداء.
وقالت «الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين»، إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تواصل سياسة احتجاز جثامين الشهداء.
وتوثق الحملة «احتجاز 665 شهيداً في مقابر الأرقام وثلاجات الاحتلال، بعضهم منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي».
وأكدت الحملة أنه «من بين الشهداء المحتجزة جثامينهم: 259 شهيداً منذ بداية العدوان في تشرين الأول 2023، و67 شهيداً من الحركة الأسيرة، و59 شهيداً من الأطفال تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، و9 شهيدات من النساء».
وختمت الحملة بالقول إن «هذه الأرقام لا تشمل الشهداء المحتجزة جثامينهم في قطاع غزة، حيث لا تتوافر معلومات دقيقة حول أعدادهم».
عقاب جماعي
من جهته، أكد مدير عام الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، صلاح عبد العاطي، في حديثه لـ«الأخبار»، أن احتجاز جثامين الشهداء يُعدّ إحدى أقدم السياسات التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي، حيث يستخدمها كأداة للعقاب الجماعي ضد الفلسطينيين وعائلات الشهداء.
وأوضح عبد العاطي أن هذه السياسة بدأت منذ نكبة 1948 واستمرت حتى عام 2008، قبل أن يعيد الاحتلال تفعيلها مجدداً بقرار من «الكابينت» الإسرائيلي عام 2015، تزامناً مع اندلاع الهبة الشعبية.
وأشار إلى أن الاحتلال لا يكتفي باحتجاز الجثامين، بل يفرض شروطاً مشددة على تسليمها، خاصة بحق الشهداء الذين يحملون الهوية المقدسية، إذ يخضع ذووهم لقيود قاسية ومجحفة تهدف إلى الانتقام من الأحياء والشهداء على حد سواء.
وأكد عبد العاطي أن الغالبية العظمى من الجثامين المحتجزة لا تنطبق عليها الشروط التي فرضتها المحكمة العليا الإسرائيلية، ما يعكس تواطؤ القضاء الإسرائيلي في ترسيخ هذه الجريمة. كما أشار إلى أن برلمان الاحتلال (الكنيست) سعى إلى تشريع قانون يمنح الشرطة صلاحيات احتجاز الجثامين، ما يعزز من الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية.
وشدد على أن هذه السياسات تتعارض بشكل صارخ مع كل الأعراف والمواثيق الدولية التي تؤكد احترام كرامة الضحايا وحق عائلاتهم في استلام جثامينهم ودفنهم بكرامة، مستشهداً بقواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم.
وانتقد عبد العاطي ما وصفه بازدواجية المعايير في التعامل مع قضية احتجاز الجثامين، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمجتمع الدولي يتعاملون مع الأمر بانحياز واضح، إذ يوجهون التهديدات ضد الفلسطينيين بسبب احتجاز عدد من الجثامين، بينما يتجاهلون احتجاز إسرائيل لمئات الجثامين منذ عقود.
وأضاف: «التناقض الفاضح في الموقف الأميركي يعكس انحيازاً ممنهجاً للاحتلال الإسرائيلي على حساب حقوق الضحايا الفلسطينيين، وهو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي الذي يدّعي الدفاع عن الحقوق الإنسانية».
وطالب عبد العاطي المجتمع الدولي بالتحرك الجاد لمحاسبة الاحتلال على جرائمه، ومنع استمرار سياسة احتجاز الجثامين التي تمثل انتهاكاً واضحاً للحقوق الإنسانية.