ارتدادات التراجع الروسي في سوريا: حلفاء موسكو الأفارقة يتوجّسون

لا تزال تداعيات سقوط نظام بشار الأسد، وما بات يوصف بـ"التخاذل الروسي" عن دعمه، حاضرةً بقوّة في المشهد الأفريقي، حيث تتصاعد أزمة الثقة إزاء استدامة "التحالف" مع موسكو، وقدْرته على توفير حماية ملائمة لتطلّعات عدد من دول القارة إلى الخروج من المظلّة الغربية، أو تحقيق توازن مقبول يكفل لها الحفاظ على سيادتها والبدء في مواجهة مشكلاتها المزمنة، من مِثل الإرهاب والعنف وتراجع التنمية. وبينما تترقّب دول القارة الوثيقة الصلة بروسيا هذه التداعيات بقلق واضح، بادر مسؤولون في الكرملين (رفضوا الإفصاح عن هويتهم)، في تصريحات إلى وكالة "تاس"، في التاسع من الجاري، إلى تأكيد توصُّل موسكو إلى اتفاق مع "السلطات الجديدة" في دمشق "لضمان أصولها العسكرية في سوريا". وعلى رغم عدم وجود دلائل مبكرة (أو معلنة بطبيعة الحال) على خطوات محدّدة من قِبَل هذه السلطات لمطالبة موسكو بالرحيل من "قواعدها"، فقد بات في حكم المؤكد ألّا تستمرّ الأنشطة العسكرية الروسية بين قواعدها في سوريا ونظيرتها في شرق ليبيا (ومنها لدول أفريقية أخرى) في مستوياتها الحالية، ما سيعني تراجعاً روسيّاً ملموساً في مناطق التنافس على النفوذ في ليبيا وإقليم الساحل.
أفريقيا والوصلة الروسية - السورية
رسمت التطورات الأخيرة في سوريا، والتي جاءت بعد نحو أسبوعين من انعقاد مؤتمر وزراء خارجية روسيا - أفريقيا الأول، في منتصف تشرين الثاني الماضي، والذي حضرت أفريقيا وعلاقاتها مع موسكو في صلبه، لترسم علامات استفهام حول خطوط إمداد القوات الروسية في عدد من دول القارة (أهمّها ليبيا ومنها إلى إقليم الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى)، والتي كانت تبدأ من القواعد العسكرية الروسية في سوريا، حيث تعتمد روسيا اعتماداً كبيراً على قاعدتَي حميميم وطرطوس لتزويد طائراتها ومعداتها العسكرية المتمركزة فيهما بالوقود، ومن ثم القيام بعمليات في أفريقيا بأقلّ تكلفة ممكنة. ويؤشّر ذلك إلى خسارات روسية مرتقبة، فيما ثمّة توقعات بسعي موسكو - في حال جدّية اقترابها من الدول الأفريقية باستراتيجية دعم وتعاون على المدى البعيد - إلى تعميق نفوذها وتنويع جوانبه في الدول الأفريقية خارج المظلّة العسكرية والأمنية وحدها.
لا تتوفّر للدول الأفريقية خيارات آنية في التعامل مع الأزمة الناجمة عن الخروج المرتقب لروسيا من سوريا
على أيّ حال، فإن توقّعات تضرُّر التأثير الروسي في أفريقيا، في الفترة المقبلة، على الأقلّ في ليبيا ومن ثم في إقليم الساحل على امتداده من السودان شرقاً إلى السنغال غرباً، تكتسب يوماً تلو آخر أسساً قوية. وعلى سبيل المثال، أكّدت دراسات لـ"معهد دراسة الحرب" Institute for the Study of War (كانون الأول 2024) حتميّة هذا التأثير، في حال فقدت روسيا سيطرتها على قاعدة طرطوس، ولا سيما في جهود إعادة الإمداد وتدوير "الفيالق الأفريقية"، وما سيترتّب على ذلك من إضعاف عملياتها في ليبيا ومجمل "أفريقيا جنوب الصحراء". لكنّ استجابة موسكو لهذه التطوّرات تظلّ محلّ اهتمام غربي وأفريقي لافت، مع توقّع تكثيف الحضور الروسي في ليبيا والسودان كبديلَين من وجود موسكو في سوريا، حتى في ظلّ غياب اتفاقات رسمية (حتى الآن) مع طرابلس والخرطوم، وعدم كفاية البنية الأساسية الضرورية لإقامة قواعد روسية فيهما "فوراً".
وفي ظل اهتزاز الثقة الأفريقية بروسيا، والذي سيتّخذ منحى تصاعدياً من الآن، فإن ضرب النفوذ الروسي في سوريا أعقبه تصعيد كبير في جبهة الحرب مع أوكرانيا، وسط تقارير (13 الجاري) عن تطلّع موسكو إلى "مقترحات سلام سيقدّمها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب"، وهي خطوة تعني - في ما لو صحّت - احتمال تقديم روسيا تنازلات كبيرة بخصوص سياساتها في أفريقيا. وفي المقابل، فإن اضطرار موسكو إلى إعادة هيكلة طرق تقديم دعمها لحلفائها الأفارقة (وول ستريت جورنال، 13 الجاري)، سيقود إلى فترة انتقالية صعبة في العلاقات الروسية - الأفريقية تستنزف مالاً ووقتاً وجهداً من قبل روسيا، ربّما لا تكون للحلفاء الأفارقة رفاهية تحمُّل تبعاتها.
الاستجابة الأفريقية: مزيد من الترقّب والانتظار
لا تتوفّر للدول الأفريقية خيارات آنية في التعامل مع الأزمة الناجمة عن الخروج المرتقب لروسيا من سوريا، أو على أقلّ تقدير مواجهة نفوذها هناك اضطرابات متوسطة أو خطيرة. وفيما قرّرت دول مثل مالي إعادة النظر في الاستثمارات التعدينية الغربية في أراضيها، فإن السلطات في النيجر أقدمت، قبيل منتصف الجاري، على الاستيلاء على موقع لليورانيوم تديره شركة فرنسية في البلاد، بالتزامن مع ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الذهب واليورانيوم العالمية. ويُتوقّع أن تؤثّر الأزمة الأخيرة على قدرة الحكومات الأفريقية المعنية على تعميق هذا التوجه، وإعادة النظر مرحليّاً في اتّخاذ خطوات تصعيدية إضافية. كما تواجه دول الساحل نمو موجة عنف غير مسبوقة منذ نحو عامين، كان من آخرها هجوم في النيجر (5 الجاري) قاد إلى مقتل عشرات المدنيين قرب مدينة تيرا (غرب العاصمة نيامي)، وحادث بالغ الخطورة (11 الجاري) قُتل فيه 10 جنود نيجيريين على الأقل غرب البلاد قرب الحدود مع بوركينا فاسو، ما يؤشّر إلى تراخ متزايد في قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مواجهة هجمات إرهابية بتأثير من تراجع الدعم الروسي.
وفي مؤشّر واضح إلى "الانحسار الروسي" المرتقب، بادر الرئيس النيجيري، بولا أحمد تينوبو، الذي نشّط دبلوماسية بلاده مع العديد من الدول الغربية في الأسابيع الأخيرة (أحدثها استقباله في أبوجا الرئيس الألماني فرانك-والتر شتاينماير في زيارة دولة، 10 الجاري)، بتصريحات لافتة أكّد فيها التزام بلاده بمواصلة السعي للوصول إلى حلول دبلوماسية "للأزمة السياسية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو"، وعمل "الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إكواس) على حماية مواطني تلك الدول "الأبرياء" من أعمال نظم الحكم العسكرية. وكشفت هذه التصريحات عن استعداد نيجيريا لإعادة الكرّة في مهاجمة دول الساحل سياسيّاً وعسكريّاً في الفترة المقبلة، في ما ينمّ عن عمق التأثير الذي سيحدثه التراجع الروسي في أفريقيا، واقتراب هجمة غربية مرتدّة كانت متوقّعة قبل سقوط نظام الأسد، وباتت منظورة تماماً راهناً.