إذا لم تلعب الأزمة السياسية المتجدّدة في إسرائيل لصالح أفيف كوخافي، فسيكون هذا الأسبوع الأخير في ولاية رئيس الأركان الـ22 في الكيان، قبل أن تحلّ محلّه شخصية جديدة يُفترض أن تتسلّم مهامها رسمياً بعد ستّة أشهر من الآن. وبمعزل عمّن سيؤول إليه المنصب، والذي لا يُستبعد أن يكون نائب كوخافي، هرتسي ليفي، فالواضح أن الجنرال «المتفلسف» لم يترك أثراً طيّباً في مسيرته، بل قد يكون أحد رؤساء الأركان «الأكثر ضعفاً في تاريخ الكيان»، كما يصفه بعضهم. ذلك أن الرجل «الأسطورة»، وفق ما اشتغلت الماكينة الإعلامية الإسرائيلية على تصويره، صبّ اهتمامه على صياغة جانب نظري فائق الطموح، وصُوّرَ من بعضهم وكأنه يتعامل مع الإيتمولوجيا وكأنّها شيء بالإمكان التلاعب به لتغيير الواقع، من دون أن يصرف الجهد نفسه في تحسين أداء الجيش وتطوير قدراته وتعزيز شكيمته القتالية، وهو ما ولّد خيبة أمل كبيرة، جاءت بالضبط على قدْر التوقّعات
يحرّك الهوَس بالمثالية، كما الفتْك، عقليّة أفيف كوخافي، حتى وهو على بُعد أشهر من خطّ النهاية في رئاسة هيئة الأركان العامّة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. نزعته تلك ربّما هي التي حملته على التعبير صراحة عن خيبة أمله من مسابقة وزير الحرب، بيني غانتس، الزمن، لتعيين خلَف له في رئاسة «الهيئة» قبل دخول الكيان في دوّامة جديدة من التأزّم السياسي، مع انهيار الائتلاف الحكومي والتَّوجّه إلى إجراء انتخابات مبكرة. استياء «الفيلسوف» - بمفهوم العقلية الاستعمارية الصهيونية - نابع من تَحوّل الأنظار باتّجاه نائبه، هرتسي هلفي، الآتي أيضاً من «نادي البيريات الحمراء» (مجمّع قادة المظليّين المُسَيطر على رئاسة الأركان في السنوات الأخيرة). والأخير، بخلافه هو، عسكري كلاسيكي، لا تُحرّكه «الثورية الانقلابية» التي يتحمّس لها كوخافي، وتتحكّم بنظرياته التغييرية ومفهومه الفلسفي لـ«النصر». ومن هنا، يَعتقد «نجم الشمال» أن تحرّكات غانتس تؤثّر في «صورته أمام ضبّاطه، وتعكس حالة من التراخي في صفوف الجيش». وبينما ينهمر الرمل بسرعة في ساعة الرجل، لينهي مسيرته العسكرية بعدما بدأها من المستنقع اللبناني منذ 39 عاماً، يبدو مفيداً استحضار نصيحة المُحاضر في «الجامعة المفتوحة» الإسرائيلية، والباحث المتخصّص في ثُلاثيّة «الجيش/ المجتمع/ السياسة»، ياغيل ليفي، الذي اعتبر أنه من الأجدر إبقاء كوخافي تحت الرقابة، من دون أن يُصغي إليه أحد، باستثناء قلّة قليلة في مقدّمتهم مُفَوّض شكاوى الجنود السابق، يتسحاق بريك، الذي لا يفتأ يصرخ بـ«الحقيقة المُرّة: الجيش في الطريق إلى الكارثة؟»، في إطار انتقادات لاذعة وجّهها إلى خطّة كوخافي المتعدّدة السنوات وما جرّته من تداعيات على الجيش.
في ذلك اليوم البارد من كانون الثاني 2019، وبينما كان رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، يُعَلّق النجوم على كتفَي الرئيس الجديد لـ«الهيئة»، في مقرّ «الكرياة» في تل أبيب، نَبّه ليفي، نظراً إلى ماضي كوخافي الحافل بالقتل، إلى ضرورة التيقن من «نضوجه»، ومن أنه بات «عارفاً بما تعنيه حرية التعبير». في اليوم ذاته، بلغ الحماس على الشاشات الإسرائيلية أَوْجه؛ فالرجل «الأسطورة»، المتعطّش للدم، للمفارقة، نباتيٌّ منذ صباه، شغوف بالموسيقى، مُولع بالرسم، أبٌ لثلاث فتيات... و«ولد الساندويتش» (وصْف إسرائيلي يُطلَق على الابن الأوسط في العائلة)، وتلميذ «لم تكن يوماً إجاباته إلّا مفتوحة»، طبقاً لإحدى مُدرّساته. صناعة ظاهرة كوخافي، «المجبول من طينة رؤساء الأركان»، والتي انهمكت بها الماكينة الإعلامية الصهيونية، مثّلت حاجة ملحّة للتغطية على حقيقة الإخفاق في الحسم العسكري الذي دقّت المقاومة اللبنانية في عام 2006 أوّل مسمار في نعشه. ولعلّه من حُسن حظّ كوخافي أن رئيس الأركان كان قد أرسله في ذلك العام (إبّان حرب لبنان الثانية) إلى بريطانيا ليستكمل دراسته الأكاديمية، وبسبب الخوف من ملاحقته قضائياً لارتكابه جرائم حرب، بدّل طريقه إلى الولايات المتحدة، وهكذا ببساطة نجا من «مقصلة فينوغراد» التي ختمت حياة كثيرين من أقرانه العسكريين بالشمع الأحمر.
بات كوخافي يوصَف بأنه أحد رؤساء الأركان «الأكثر ضعفاً في تاريخ الكيان»


في عام 2002، إبّان عملية «السور الواقي»، سطع نجم كوخافي بعد «مباغتته» المقاومة، اعتماداً على تكتيك «التقدُّم من خلال إحداث فتحات في الجدران». وبالرغم من أنه ليس هو مبتكر هذه «الوصفة» التي دخلت، منذ الحرب العالمية الثانية، المعجم العسكري باسم «Mouse-holing»، بعدما استخدمها الكنديون في إيطاليا ضدّ الألمان عام 1943، والبريطانيون من قَبْلهم لقمع «ثورة الفصح» في دبلن الإيرلندية عام 1916، إلّا أن الحاجة الإسرائيلية الماسّة إلى ابتداع هوية عسكرية خاصة، دفعت إلى إعادة «اختراع» المفهوم المُشار إليه، وتقديمه للعالم الغربي على أنه نتاج لفلسفة ما بعد حداثية، تقوم على تطويع الحيّزَين العام والخاص باستخدام «الهندسة العكسية»، بالتساوق مع الزمان والمكان ومن خلال الانتصار عليهما. حتى كوخافي نفسه أجاب قبل ثلاثة أشهر، سؤالاً وجّهته إليه المذيعة طالي ليفكين- شاحك حول أصل تلك الفكرة، بالقول إنه استوحاها من نموذج مصغّر نفّذه في حيّ القصبة في مخيم عكسرة لاعتقال أحد المطلوبين، وذلك قبل أسبوعين ممّا جرى في مخيّم بلاطة، متسائلاً: «لماذا لا نطبّق ذلك على مساحة أوسع؟ نُباغت العدو ونحوّله إلى فريسة لنا في قلْب الأزقّة؟». المفارقة هنا، أن هذا التكتيك الذي يقدّمه أحد «أساطين» الجيش الإسرائيلي على أنه إنجاز عظيم، كان استخدمه أهالي حيّ الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك عبر التنقّل من بيت إلى آخر بواسطة إحداث ثغرات في الجدران، من أجل الهروب من مرمى القنّاصة، وهو ما لا يزال يذكره مَن كانوا أطفالاً حينها.
ما فعله كوخافي في مخيم بلاطة، كشف طبقاً لليفي جوانب من شخصية الرجل، ومنها نزوعه إلى استخدام القوّة المفرطة التي دمّرت بيوت مئات العائلات الفلسطينية وقتلت أبناءها المقاومين، فضلاً عن أنه، وبالتعاون مع زملائه في «معهد دراسة عقيدة المعركة» (الذي أُغلق قبيل حرب تموز بوقت قصير، علماً أن «لجنة فينوغراد» حمّلت مُفكّريه وزْر إنتاج اللغة الضبابية التي حكمت المؤسّسة العسكرية خلال الحرب، والتي كان رئيس الأركان، دان حالوتس، آنذاك، من أشدّ معارضيها) وفّر «ستاراً فكرياً» لعمليات التدمير والقتل الممنهجة تلك، بعدما جنّد لها فلسفة فرنسية راديكالية، إذ استخدم كوخافي، في معرض شرعنة جرائم جنوده في المخيّم، مصطلحات مِن مِثل «الهندسة العكسية» التي تتمرّد على «التفسير المقبول للنظام الحضري»، إضافة إلى «الانثيال السربي»؛ ذلك أن «الجنود لا يهدمون أحياء كاملة لقتل مسلّحين، وإنما يعملون على إعادة تفسير الحيّز الحضري»، وهو ما يضمن ملاءمة حركتهم للمكان، بحسبه. وفي المحصّلة، فإن الـ«تغييرية» التي لا تزال تسيطر على عقل كوخافي حتى اليوم، لم تؤتِ أُكُلها لا آنذاك ولا لاحقاً، إن لم تكن قدّمت المفتاح لخلخلة الأمن الإسرائيلي؛ فبعيد وقت قصير من السيطرة على مخيم بلاطة، فجّر الاستشهادي عبد الباسط عودة - الذي كان مطلوباً ومطارَداً - نفسه في «فندق بارك» في مستوطنة «نتانيا»، وقَتل 30 إسرائيلياً، وجَرح 190 آخرين في عملية عُرفت بأنها الأقسى في تاريخ الكيان.
وعلى رغم كثرة زلّاته، إلّا أن «الفيلسوف» لا يكاد يتقبّل انتقاداً، وهو ما تجلّى في تهديده المهندس أيال فايتسمان، عام 2006، بالتوجّه إلى القضاء، عندما أعدّ الأخير سلسلة انتقادات ضدّه للنشر في مجلّة أكاديمية. صحيح أن المقال نُشر في نهاية الأمر، من دون رفع دعوى قضائية، غير أن ذلك مثّل «تهديداً غير مسبوق عموماً ضدّ حرية الرأي، وفي علاقة الضباط مع الأكاديميا بشكل خاص»، كما أنه كشف عن «فهم إشكالي لدى كوخافي لحرية الرقابة على الجيش، وعلى صعوبة ملموسة في مواجهة الانتقادات»، بحسب ليفي، الذي أمل في حينه أن يدرك كوخافي أن «الابتكار هو في الفعل نفسه، وليس في الغلاف اللغوي المتضخّم». ولكن هذا الأمل ظلّ حبيس الخيال؛ إذ حتى بعد أربع سنوات من شَغْله منصبه، بقي كوخافي يضخّم عضلاته «الفلسفية» بعيداً من الواقع، وهو ما جاءت نتيجته غير طيّبة في معركة «حارس الأسوار» (سيف القدس)، إذ كشفت هذه المعركة أن استراتيجية «الجيش الفتّاك» (في خطّة «تنوفاه» أو الزخم) والتي صاغها رئيس الأركان لتحقيق النصر في أقصر وقت ممكن وبأقلّ عدد من القتلى وبأقصى قوّة نارية، تتّكل أساساً على التقنية كعامل شبه مركزي في تحديد سير القتال وكيفيته. وبالاعتماد على النصيحة التوراتية القائلة «بالخديعة تَصنع حربك»، كانت خطّة «المترو» التي أُعدّت للفتك بـ300 مقاوم من الصفوف الأولى، عبر إيهام المقاومة - التي تراءت لكوخافي كما تراءت له في نابلس - بأن الجيش يستعدّ لدخول بري، فيجرّها إلى الأنفاق وهناك يدفنها. لكن ما حصل في النهاية، هو أن «خارق الجدران»، كوخافي، أنهى مسيرته فعلياً بأن أبقى جنوده خلف الأسوار، وعلى مسافة آمنة قدْر المستطاع، لأنه ببساطة غير مستعدّ للتضحية، وها هنا مكمن المشكلة.
برأي محلّل الشؤون الأمنية لصحيفة «هآرتس»، يوسي ميلمان، فإن كوخافي هو أحد رؤساء الأركان «الأكثر ضعفاً في تاريخ الكيان»، لأنه «توجد فجوة بين تصريحاته والكلمات العالية التي يطلقها وبين ما يتمّ تنفيذه على الأرض»؛ فبعد شهرَين من «فشله في الضربة الصاعقة (مترو)... تسلّلت خلية لحزب الله إلى الحدود في مزارع شبعا. ما فعله الجنود في الموقع هو أنهم أطلقوا النار من بعيد فوق رؤوسهم لدفعهم إلى الهرب، وذلك من أجل عدم تصعيد الوضع... لم نرَ هنا سعياً للفتك والمواجهة». ويعتقد ميلمان أن الصفات التي جعلت من كوخافي أسطورة هي «نفسها التي أضرّت به»، معتبراً أن «دراسته الفلسفة في الجامعة، أوجدت لديه ميلاً إلى التفلسف والانتشاء بالكلمات». صحيح أن وصْفه «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«حزب الله» بـ«الجيوش الإرهابية» وليس «التنظيمات الإرهابية»، كما فعل في أوّل جلسة في هيئة الأركان عام 2019، وكما كرّر قبل أيام في محاضرة له، قد لا يكون مبالَغاً فيه، إلّا أن كوخافي «يتعامل مع الإيتمولوجيا وكأنّها شيء بالإمكان التلاعب به لتغيير الواقع». كان أمل الرجل «جسْر الهوّة مع هذه الجيوش وإعادتها إلى تنظيمات على الأقلّ»، إلّا أن ذلك لم يتحقّق حتى الآن. ومن هنا، «وعلى قدْر التوقّعات، كانت خيبة الأمل. لقد وجدنا أن تقديراته كانت إشكالية»، وفق ما يؤكّد ميلمان.
في المحصّلة، «وعلى رغم أنه لم يتمّ تحدّيه في مواجهة عسكرية حقيقية، إلّا أن كوخافي لم يستغلّ ذلك من أجل تحسين الجيش وتطويره، وإنّما تركه يراوح مكانه»، بحسب ميلمان، الذي يسخر من تبنّي كوخافي شعار لواء «الناحال»: «المَدافع بدلاً من الجوارب»، بينما نسي إطعام جنوده (غمرت مقاطع الفيديو حول الطعام الرديء المُقدَّم للجيش مواقع التواصل الاجتماعي). ويكمل أنه «من الواضح، في معظم الأحداث والامتحانات الهامّة، أن رئيس الأركان الـ22 في إسرائيل أظهر قصوراً معيباً في القيادة وتخدّراً في الحواس.. عندما يقولون عنه إنه رئيس أركان سياسي، فإن القصد ليس انحيازه سياسياً أو إيديولوجياً، وإنّما حقيقة أنه مُحَوْسَب، وله طموحات في دخول المعترك السياسي بعد تسرّحه وانتهاء فترة التجميد». وهناك، طبقاً لميلمان، قد يلتقي مع رئيس «الموساد» السابق، يوسي كوهين، الذي «يشبه سلوكه بشكل كبير سلوك كوخافي».



هل تُمدَّد ولاية رئيس الأركان؟
على رغم ميْل وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، إلى استكمال مسار اختيار رئيس جديد لهيئة الأركان، إلّا أن الأزمة السياسية المتجدّدة في الكيان، وما ستؤدّي إليه من حلٍّ لـ«الكنيست»، قد يكون من شأنها تعقيد هذا المسار. ومن هنا، تجري دراسة الخيارات المتوافرة أمام غانتس من الناحية القانونية، ومن ضمنها إمكانية تمديد ولاية أفيف كوخافي التي ستنتهي في كانون الثاني، لفترة قصيرة. وكان وزير الأمن قد بدأ العمل على التعيين الجديد بهدف الحؤول دون الوصول إلى وضع يصعّب اختيار رئيس للأركان خلال فترة الحكومة الانتقالية؛ إذ بحسب تقرير لموقع «واينت» العبري، فإنه خلال تلك الفترة، عادةً ما يُجمّد تعيين كبار المسؤولين، مثلما حدث عام 2019، عنما تعذّر اختيار قائد للشرطة في نهاية ولاية المفتّش العام للجهاز، روني ألشيخ، حيث ظلّت الشرطة تعمل لمدّة عام كامل تحت ولايته الممدة تلقائياً، إلى حين تعيين المفتّش العام الحالي، يعكوب (كوبي) شبتاي، في كانون الأول 2020. ومن المتوقّع أن تعلِن المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف-ميارا، في غضون أيام، توصياتها بخصوص ما يُسمح وما يُحظر إقراره والعمل به خلال الفترة المقبلة، كما ستحذّر رئيس الوزراء، نفتالي بينت، وبديله ووزير خارجيته، يائير لبيد، وبقيّة الوزراء من إساءة استخدام صلاحيّاتهم في زمن الحكومة الانتقالية. وبالاعتماد على القرارات السابقة للمحكمة العليا الإسرائيلية، فإنه يتعيّن على هذه الحكومة «تقييد ممارسة سلطاتها، بالنسبة إلى جميع القرارات التي لا توجد فيها ضرورة خاصة وحاجة ملحّة إلى إنجازها خلال الفترة الانتقالية»، ويُشترط «فحص نطاق المعقولية في هذه المسألة».