لا شيء أفضل من الكلام المباشر، ومن العبارة القصيرة، والوضوح الكلي، والهدف المعلن. ولا شيء يمنح الكلام بعده الروحي والمعنوي إلا متى صدر عمّن يمكنه تحقيقه.

طال الزمان حتى وصلنا الى هذه اللحظة. تأخّر بنا الوقت، ونحن نتنقل بين نكسة ونكبة. تأخر بنا الزمن حتى يئس المتسلط الأكبر من إسكات صوتنا المرتفع الى أعلى من كل قامات الغرب المتغطرس. وطالت الرحلة ونحن نحمي إرث الشهداء بالكثير من الصبر. ونتحمل قساوة أبناء جلدتنا من تُفّه أو جهلة أو خانعين. لكن للتاريخ قصته التي لا تقف على خاطر أحد. ها هو بطلهم الأكبر يطلّ بنفسه. بكل ما فيه من قبح وجنون وتكبّر. جاء على هيئته الحقيقية. وحش يسير خلف غريزة قتل كل شيء من حوله. جاء مجنوناً ومحطماً ما بقي من جدران فاصلة عنه، ونازعاً كل الأقنعة والوجوه المزيفة. جاء هادراً، يطلب من صِبيته التنحّي جانباً، بعدما ملّ من كسلهم وفشلهم!
غداً أو بعده أو في يوم ليس ببيعد، سيروي لنا سادة الكون كيف جلس كبير السحرة يرمي بالنرد ليصيب منا المحبّين والأطهار. تهتز الأمكنة بفعل ضحكة القاهر الأكبر. سيرمي الحاضرين من حوله بالنار، معلناً استسلام العالم لسلطانه. لكن، في مكان بعيد عن أرض دعي الناس إليها لأنها تحقق الأحلام، لكنها لم تنبت سوى الموت، سيخرج فتية اشتدّ عودهم باكراً، يروون لأترابهم حكاية الجيل الأول، وفي فصله الأول:
في ذلك الصباح، يوم الأحد في 23 تشرين الأول عام 1983، أمسك استشهادي بمفتاح العصر الجديد. اقتحم بشاحنة مليئة بالمتفجرات مقر قوات الاحتلال الأميركي في بيروت. كان فيه 300 من عناصر الاحتلال. أقاموا في بناء مكوّن من أربع طبقات، يخدمهم بضعة جنود، وفي الخارج بضعة عملاء. لم يكن أحد ليتوقع صاعقة الصباح ولا مطر النار. انفجار كبير دوّى في المكان، مفتتحاً رحلة التخلص من سلطة وثقافة ونمط حياة أكبر مزوّر في التاريخ. كان الصوت قوياً جداً. وصفه الأمنيون في واشنطن بأنه «أقوى تفجير غير نووي في التاريخ» وأن دويّه، الذي أيقظ بيروت، وصل صداه الى واشنطن وباريس و... تل أبيب.
مرت السنوات، وتبادلت الأجيال راية احمرّت بدماء الشهداء. وارتفع صوت الخارجين عن سلطة القاهر، وتوسعت مساحة انتشارهم، وعادوا الى قلب القدس رغماً عن التاريخ. وأعادوا تنظيم صفوفهم في بقية البلاد المسلوبة. ونظّفوا أرض لبنان بأجمل شبابهم، وحموا بأجسادهم الشام من الحريق الأخير. واستعدوا لغسل أرض الرافدين من عار القاهر وعملائه الكثر... وفي مكان ليس ببعيد، يحمل حفاة هَمّ استعادة الحق العربي التاريخي في جزيرة تناوب على قهرها أمراء الظلام... وها نحن اليوم نجد أنفسنا، من جديد، أمام من حاول التخفّي خلف صبية جبناء أو جهلة، أو حاقدي التاريخ. ها هو يقترب منا، رافعاً سيفه ومتحدّياً.
بالأمس، خرج من بيننا رفيق الشهداء، يعلن المسألة بأبسط مما تدرّس في كل كليات الجيوش والجامعات. قال لنا إن الطريق واضح وبائن للجميع. ها نحن نواجه الطغاة دفعة واحدة. من كبيرهم الى صغيرهم. ودعانا للانضمام الى حرب التحرير الكبرى، حيث لا مجال لوسطية أو حياد. وحيث لا مجال لتلاعب أو مناورة أو محاباة. دعانا الى حيث الجميع يعرف الجميع. وإلى حيث الأهداف واضحة على الضفّتين وعند الجبهتين. ومن يفترض نفسه قادراً على التخفّي خلف جدر أو أسطورة، سيجد نفسه في مرمى النيران لحظة النهاية.
أطلق السيد معركة تحرير بلادنا من كل وجود عسكري أميركي. مهما كان شكله أو حجمه أو طريقة وجوده. حسم لمرة أولى وأخيرة بأن لا شرعية لأي وجود عسكري أميركي في بلادنا. ولا شرعية لمن يمنح هذا الاحتلال شرعية الوجود. وهذا يعني ببساطة أن من يجد نفسه قادراً على القيام بدوره، فليفعل ذلك بهدوء وصبر وحكمة، لتكون ضربته أشد إيلاماً، ولتكون إصابته أقرب إلى المقتل.

لا شرعيّة لأيّ وجود عسكري أميركي في بلادنا، ولا شرعيّة لمن يمنح هذا الاحتلال شرعيّة الوجود


ليست هذه مهمة الجميع. ونحن الذين كنا ونبقى وننتهي في هذا الخيار، لم يكن عندنا حياد يوماً، ولا حتى مهادنة أو مداراة. ولكوننا نعرف خطورة العدو بسلاحه الناري أو غيره، نعرف أن مهمتنا ستكون أيضاً واضحة ولها عناوين واضحة:
كل وجود أميركي عندنا، وفي بلادنا، هو وجود قهري. وله طابع احتلالي، ويجب مقاومته، ليس إنْ كان على هيئة جنود أو طائرات.
كل وجود أميركي عندنا، وفي بلادنا، هو وجود احتلالي يجب كنسه، حتى ولو كان على هيئة مستشارين وفنيين ودبلوماسيين وناشطي حقوق إنسان ومطوّري مهارات ومموّلين ومديري جمعيات البؤس المدني.
كل وجود أميركي عندنا وفي بلادنا، هو احتلال قاهر، حتى ولو تلبّس ثوب الأكاديمي وصاحب الفكر والعلم، ووجب كنسه أيضاً...
والأمر لا يتعلق بهؤلاء فقط، بل بأزلام أميركا وأتباعها، والذين يعيشون على فتاتها، وسنتعامل مع كل متلقّي دعم أميركي، سياسي أو مالي أو إعلامي على أنه جزء من هذا الاحتلال وجبت مقاومته وقهره أيضاً. وسنكون واضحين، كما كنا في كل يوم، بأننا لا نقف على خاطر أحد. لا سلطة متذاكية وفاسدة يجب كنسها مع الاحتلال، هنا في لبنان كما في العراق وكل بلاد المنطقة، ولا نقف على خاطر أغبياء يخافون المواجهة بحجّة كلفتها الباهظة على فقراء العالم...
ليعلم القوم من حولنا، أن خيارنا ووعينا هو أننا جزء من هذه المقاومة الجميلة، البهيّة، على صورة الشهداء الكبار. ووحدها القادرة على رسم مستقبلنا الذي نريده، برغم كل التعب والقهر والدماء!
إنها الحرب!