اهتز العالم أمس على وقع أعنف الهجمات الإرهابية التي يشنها اليمين الغربي المتطرّف. مذبحة كراهية جديدة تُعد الأشد فتكاً ودموية من نوعها منذ هجومَي النرويج في 2011، وترسم مساراً متصاعداً لهذا اللون من العنف المتدثر برداء المسيحية، والذي تزايد في السنوات الأخيرة، منتقياً أهدافاً عدة، بينها اليساريون والمهاجرون والملونون واليهود والمسلمون.اختلفت أهداف الأوسترالي برينتون تارانت (28 عاماً)، منفذ هجوم أمس، عن منفذ هجومي النرويج في 2011، لكن الأول لم يخف استلهام عمله من الثاني في بيانه الذي نشره على الإنترنت. بلا أي وجل أو اختباء أو تردد، أعلن مسبقاً عزمه على تنفيذ هجوم «ضد الغزاة»، وأن يقوم بنشر بث حي للعملية على «فايسبوك»، وهو ما قام به بالفعل. وقد بدت العملية مخططاً لها مسبقاً ومدروسة بعناية، إذ اختار اكتظاظ المسجدين بالمصلين في وقت صلاة الجمعة، حين هاجم منفذ العملية الموجودين داخل المسجدين وخارجهما، مستخدماً بندقيته لإرداء أكبر عدد ممكن، ومن ثم الإجهاز على الجرحى والعودة للتأكد من قتلهم. وفي آخر حصيلة لضحايا العمل الإرهابي، كما وصفته رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، فقد قتل 50 شخصاً، من أصول باكستانية وتركية وسعودية وأردنية وأندونيسية وماليزية وبنغلادشية. ووقع العدد الأكبر من الضحايا في مسجد «النور»، فيما لم يعرف حتى ليل أمس ما إذا كان مهاجم المسجد المذكور هو نفسه الذي هاجم مسجد حي لينوود أيضاً، إلا أن المؤكد للشرطة وشهود عيان أن آخرين متورطون في العملية، حيث ألقي القبض على 3 مشتبه فيهم.
نشر تارانت قبل يومين بياناً من 74 صفحة حمل عنوان «الاستبدال العظيم»


وقد أظهرت اللقطات التي صورها المهاجم بنفسه مشاهد مروعة لقتل المصلين بدم بارد في أحد المسجدين المستهدفين، في ما بدا فعلاً مستوحى من ألعاب الفيديو. وبحسب الشريط المصور نفسه (15 دقيقة)، يظهر استعداد برينتون تارانت لتنفيذ العملية وهو يقود سيارته مستمعاً إلى موسيقى حماسية بالصربية تشيد بالسياسي الصربي رادوفان كاراديتش، الملقب بـ«سفاح البوسنة»، قبل أن يتوقف ويتناول بندقيتين ويثبت الكاميرا على رأسه، ومن ثم يقتحم مسجد «النور» في مدينة كرايستشيرش، قائلاً «دعونا نبدأ هذه الحفلة». وما إن انتشرت أخبار العملية وصور الهجوم المزدوج الصادمة، حتى انهالت التعليقات الدولية المنددة، فيما سارعت مواقع التواصل، ولا سيما «فايسبوك» و«تويتر»، إلى حذف حسابات المهاجم ومنشوراته السابقة وكذلك التعليقات المرحبة بالمذبحة أو المشيدة بمنفذها. وبعد ملاحقة للمهاجم وهو في سيارته، تمكنت الشرطة من توقيفه وإلقاء القبض عليه لتباشر التحقيق معه. وبحسب السلطات النيوزيلندية، فإن تارانت زار بلداناً عدة (تأكد بحسب السلطات التركية إقامته في تركيا)، ولا يعدّ مقيماً في نيوزيلندا، كما أنه لم يكن تحت المراقبة الأمنية.
وقد نشر تارانت، قبل يومين فقط، بياناً طويلاً من 74 صفحة، لم تلتفت إليه أجهزة الأمن. وحمل البيان عنوان «الاستبدال العظيم»، وهو مصطلح يرمز إلى «مؤامرة» يؤمن بها الشعبويون واليمينيون المتطرفون في أوروبا، بأن ثمة خطة لاستبدال سكان فرنسا البيض وبعض البلدان الأوروبية بسكان من الشرق الأوسط وأفريقيا. وعزا البيان الهجوم إلى «التزايد الكبير لعدد المهاجرين» الذين عدّهم «محتلين وغزاة»، كاشفاً أن سبب اختيار نيوزيلندا هو «توجيه رسالة للغزاة أنهم ليسوا بمأمن حتى في أبعد بقاع الأرض»، وأن اختيار المسجد المستهدف يعود إلى كثرة رواده. وأكد تارانت أنه لا يشعر بالندم «وأتمنى فقط أن أستطيع قتل أكبر عدد ممكن من الغزاة»، مضيفاً «ليس هناك من بريء بين المستهدفين، لأن كل من يغزو أرض الغير يتحمل تبعات فعلته». وجاء في البيان المليء بلغة الكراهية «أرضنا لن تكون يوماً للمهاجرين... وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك ولن يستطيعوا يوماً استبدال شعبنا». ويورد تارانت في مقطع آخر «ارتكاب المذبحة جاء لأنتقم لمئات آلاف القتلى الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ». تارانت، الذي لفت انتباه المراقبين إلى إبدائه الإعجاب بالرئيس الأميركي دونالد ترامب (الذي شجب العملية أمس) كـ«رمز لإعادة الاعتبار لهوية البيض»، نفى انتماءه لأي حركة سياسية، وأكد أنه نفذ الهجوم بدوافع شخصية، وأنه يمثّل «ملايين الأوروبيين الذين يتطلعون للعيش على أرضهم وممارسة تقاليدهم الخاصة».
ومما حظي بانتباه المتابعين أمس، العبارات التي كتبت على بندقية منفذ المذبحة، والتي ضجت بإشارات عنصرية ومتطرفة، من بينها «فيينا 1683» في استذكار لخسارة العثمانيين معركة فيينا التي وضعت حداً لتوسعهم في أوروبا، وكذلك عبارة «اللاجئون، أهلاً بكم إلى الجحيم؟». وقد بث الهجوم الرعب في أرجاء العالم، واضطرت السلطات في نيوزيلندا وأوستراليا والولايات المتحدة وأوروبا إلى اتخاذ إجراءات أمنية لحماية المساجد.