معركة فنزويلا دولية بامتياز. لا يستطيع المثاليون المغفّلون، أصحاب شعار «الأولوية للديموقراطية»، أن يتعاموا عن التدخل الأميركي المباشر في صيرورة الأزمة الحالية وفي هندستها، أن ينكروا هذه الحقيقة الجلية بعد مسارعة الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى التأييد العلني للمحاولة الانقلابية التي يشهدها هذا البلد. أنكروا ذلك في ليبيا التي تعرضت لحملة تدمير شاملة من قِبَل حلف الـ«ناتو»، وفي سوريا التي استُهدفت بحرب إقليمية ــــ دولية باتت إسرائيل شريكاً رسمياً فيها منذ سنوات تحت مسمّى «عمليات ما دون الحرب». حتى أيام الإعداد لغزو العراق عام 2003، طرحوا شعارهم الأبله: «لا للحرب، لا للديكتاتورية»، على أساس أن القوات الغازية لم تكن تستهدف محو العراق العربي عن الخريطة ــــ وهو ما حصل بالفعل ــــ، وتحويله إلى فدرالية طوائف وإثنيات لا تزال غارقة في نزاعاتها إلى اليوم.أزمة فنزويلا دولية بامتياز، لأنها كاشفة للاستقطاب الدولي المتعاظم بين قوى الهيمنة الغربية الهرمة المؤيدة للمحاولة الانقلابية، والقوى غير الغربية الصاعدة المدافعة عن الرئيس الشرعي نيكولاس مادورو، وعن عالم تسود علاقات ندّية بين مكوناته، بعد أكثر من خمسة قرون من سياسات العدوان والاحتلال والإبادة والاستعباد والنهب والاستغلال التي اعتمدها الغرب حيال «الآخرين»: شعوب وبلدان الجنوب. وهي دولية أيضاً لأن لمآلاتها تداعيات مهمة على عملية الاستقطاب المذكورة والتحولات في موازين القوى العالمية الناجمة عنها.

انفلات العصبية البيضاء من عقالها
كيف يُفسر الحشد الغربي دعماً لرئيس البرلمان الفنزويلي الانقلابي خوان غوايدو، على رغم الخلافات المتزايدة بين طرفَيه الأميركي والأوروبي؟ اعتقد البعض أن مواقف ترامب تجاه حلفائه الأوروبيين، وتهديده إياهم بحرمانهم من الحماية الأميركية عبر الانسحاب من حلف الـ«ناتو»، سيدفعهم إلى تغيير مقارباتهم للشؤون الدولية، والعزوف ــــ ولو تدريجياً ــــ عن الانسياق خلف الولايات المتحدة. لكن الأزمة الفنزويلية تظهر خطأ هذا الاعتقاد، لأن أبرز القادة الأوروبيين، بمن فيهم من يوجّه نقداً حاداً لواشنطن، ضمّوا أصواتهم إلى صوت «الأخ الكبير» الأميركي، في مسعى لنزع الشرعية عن الرئيس مادورو، وتأمين الغطاء السياسي للمحاولة الانقلابية.
يختلف هؤلاء حول البيئة والتجارة والحماية الجمركية، وحول السبيل الأمثل لاحتواء إيران مع أو دون الاتفاق النووي، لكنهم يتحوّلون إلى قطيع من الذئاب الكاسرة إذا سنحت الفرصة لإسقاط نظام وطني في بلد من بلدان الجنوب، وعودة سيطرتهم عليه. هذا ما فعلوه في ليبيا، على رغم التنازلات المفرطة التي قدّمها معمر القذافي لهم، والتي ساوت ما يشبه الاستسلام، وما حاولوا فعله في سوريا بعد مساعٍ فرنسية مخادعة للتقارب قبل انفجار الصراع، سرعان ما انقلبت إلى حرب مفتوحة عند وقوع هذا الانفجار. لا يمكن التغاضي عن الخبر الذي نُشر على موقع أسبوعية «باري ماتش»، الذي يفيد بأن سقوط مادورو «سيكون خبراً مفرحاً لشركة توتال».
تشتكي الأطراف الأوروبية من سوء معاملة ترامب لها، لكنها ترصّ الصفوف خلفه عندما يتعلق الأمر بالانقضاض على دولة وطنية في جنوب العالم، تمتلك ثروة نفطية كفنزويلا، ولو تعلق الأمر بالحصول على جزء من فتات النهب الإمبريالي لها. فالدول الغربية الهرمة جميعها تشهد بالعين المجردة سرعة ضمور هيمنتها ونفوذها، لحساب اللاعبين الجدد غير الغربيين («القوى التحريفية» حسب تعريفهم)، الذين أصبحوا ينافسونها على الصعيد العالمي على الأسواق والموارد والمواقع الاستراتيجية.
لقد دخلت روسيا إلى الشرق الأوسط من الباب العريض بفعل الأزمة السورية، وتتبعها الصين، بينما اتخذ دونالد ترامب قراراً بسحب قواته من سوريا، يراه قسم وازن من المحللين مؤشراً إلى بداية انسحاب أميركي من المنطقة، أو على الأقل تراجع نفوذ الولايات المتحدة فيها. الصين لاعب اقتصادي أساسي في أفريقيا منذ فترة غير قصيرة، تليها روسيا التي شرعت في تطوير تعاونها العسكري والسياسي مع عدد من دولها. فنزويلا كانت مبادِرة إلى فتح أبواب التعاون الاقتصادي والعسكري ــــ الاستراتيجي مع القوتين الآسيويتين (وروسيا أخذت بخيار الانتماء إلى آسيا بعد فترة طويلة من «الحلم» بالدخول إلى النادي الغربي). تحولات العالم تصيب القطاع الأوسع من نخب الغرب، وشطراً لا يُستهان به من مجتمعاته، بهلع شديد. من هنا، الانقياد الأعمى خلف ترامب ضد فنزويلا والصين وروسيا، ومن هنا أيضاً نمو العصبية البيضاء، الشكل المعاصر للفاشية الغربية.
لقد وصلت عدوى العصبية البيضاء من الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا إلى دول في الجنوب، تضمّ بين سكانها أقليات بيضاء من أصول أوروبية، كالبرازيل وفنزويلا والأرجنتين وتشيلي. في هذه البلدان، يتطابق الانقسام الاجتماعي ــــ الطبقي والسياسي ــــ إلى حد كبير ــــ مع الانقسام العرقي. أحفاد المستوطنين الأوروبيين، الذين استولوا على البلاد واحتكروا ثرواتها وحكموها منذ تأسيسها ويسمون العائلات (Familias)، يقفون اليوم في مواجهة أغلبيات مفقرة ومتنوعة، تضم السكان الأصليين والمختلطين والمنحدرين من أصول أفريقية.
هذه الجماهير هي القاعدة الاجتماعية والانتخابية التي صوتت لمصلحة «حزب العمال» في البرازيل، وهوغو تشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، وغيرهم من قوى اليسار التي سعت إلى وضع سياسات إصلاح اقتصادي ــــ اجتماعي شديد الاعتدال موضع التنفيذ. لم تكن هذه القوى في صدد إدخال تعديلات جذرية على نظام الملكية الخاص في هذه البلدان، ولا على الطبيعة الديموقراطية لأنظمتها السياسية، كما فعلت الأحزاب الشيوعية بعد تسلّمها السلطة من خلال مسار ثوري في روسيا والصين وفييتنام وكوبا. جلّ ما طمحت إليه هو الحد من الفوارق الطبقية الهائلة عن طريق إصلاحات اقتصادية تتيح قدراً من إعادة توزيع الثروة، يخرج عامة الشعب من الفقر المدقع، ويؤمّن له الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
سبق للولايات المتحدة أن أطاحت الرئيس التشيلي سيلفادور أليندي، لأنه أراد ــــ عبر استعادة السيطرة على الموارد الوطنية من الشركات الأميركية ــــ «أن يكفل حق أبناء تشيلي بتناول ثلاث وجبات طعام يومياً مع كوب من الحليب للأطفال في الصباح». قتلوا أليندي صاحب نظرية التحول السلمي نحو الاشتراكية، بسبب برنامجه الإصلاحي المتواضع، الذي يمكن حتى للعديد من الأحزاب اليمينية في دول الغرب أن تتبنّاه. لكن ما يحق لعامة الغربيين لا يحق لغيرهم. لا نزال اليوم أمام المنطق نفسه، مع اختلاف جوهري، وهو تخلّي قيادة الغرب ــــ أي الولايات المتحدة ــــ عن مزاعم من نوع نشر الديموقراطية أو الدفاع عن حقوق الإنسان.
الإمبراطورية المنحدرة تظهر مجدداً شراستها المنقطعة النظير في ما تعتبره حديقتها الخلفية، أي أميركا الوسطى واللاتينية، فتشرف على انقلاب مكشوف في البرازيل أزاح ديلما روسيف من السلطة، وتحاول إطاحة مادورو، وترعى صعود القوى الفاشية داخل هذه البلدان. ليس سراً أن رفيق درب ترامب، ستيفن بانون، كان المدير الفعلي لحملة بولسونارو الانتخابية في البرازيل، وأنه يقوم بدور مباشر في مساعدة المعارضة الفنزويلية. المعركة الدائرة في فنزويلا، وقبلها في البرازيل، تلخص وتكثف الصراع المحتدم على صعيد عالمي: أقليات بيضاء غربية مترفة ومتغطرسة، وغارقة في حنينها إلى عصر ملكت فيه البلاد ومَن فيها، تجهد لمنع الأغلبيات الملونة وغير الغربية من نيل حقوقها الأساسية كبشر، وتفعل ذلك أولاً بفضل دعم الولايات المتحدة. فليكن شعارنا اليوم، كما في الأمس: «الموت لأمريكا»!