كان متوقعاً أن تكون نتائج القمة 24 للمناخ التي عقدت على رائحة الفحم الحجري في مدينة كاتوفيتسه في بولندا، أكثر برودة لو جاهر الكثير من الدول بحقيقة موقفها من الاتفاقية وقضية المناخ. إلا أن ديبلوماسية المفاوضين، كما في كل جولة مفاوضات، كانت تنتصر على الإعلان الصريح لحقيقة المواقف والسياسات. لذلك جاء المخرج الديبلوماسي لفشل المفاوضات بالقول إن «الـCOP24 يعتمد المبادئ التوجيهية لتنفيذ اتفاقية باريس»، كتأكيد للمؤكد الذي يعني أن الدول لا تزال تلتزم اتفاقية باريس، من دون أن تلتزم شيئاً!
انتهت القمة بعد تمديدها يوماً إضافياً (بين 2 و15 الجاري)، في حين أن المطلوب كان، في أقل تقدير، مضاعفة الالتزامات لكي لا ترتفع درجة حرارة الأرض أكثر من درجتين.
جديد القمة هذا العام، إعلان البرازيل (مع رئاستها الجديدة الشبيهة بـ«أفكار» دونالد ترامب) الانسحاب من اتفاقية باريس العام المقبل، واعتذارها عن عدم استقبال القمة 25 للمناخ (2019) كما كان مقرراً. صحيح أن الدول الأطراف استدركت الموقف فوراً وقررت أن تنعقد القمة المقبلة في تشيلي، إلا أن مؤشر انسحاب البرازيل التي تُعَدّ غاباتها رئة العالم، شكّل صفعة لا تقلّ خطورة على قضية تغيّر المناخ عن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية العام الماضي.
كذلك أنهت القمة أعمالها من دون أن تحسم مسألة مساهمات الدول الكبرى في تمويل صندوق المناخ، ما يعني أن التعهّد بدفع 100 مليار دولار أميركي كل سنة بحلول عام 2020، مع بدء تطبيق الاتفاقية، لا يزال ضمن المستحيلات، كما مسألة خفض الانبعاثات التي لا تزال تزداد بدل أن تنخفض.
من دون قيادة
شعر المشاركون في قمة بولندا هذا العام بتراجع لافت في الحماسة وغياب القيادة الفاعلة عن المحادثات. وإذا كان يتوقع البعض من الاتحاد الأوروبي أن يأخذ دور القيادة، كما كان يفعل دائماً، باستثناء مرحلة تدخّل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ولا سيما في قمة كوبنهاغن وما بعدها، فقد كانت واضحة في بولندا انقسامات دول الاتحاد وضعف الخطاب والحماسة، ولا سيما بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد، وتظاهرات السترات الصفر في فرنسا احتجاجاً على ضريبة الكربون على المحروقات، التي كانت تُعَدّ حتى الأمس القريب المفتاح الأساسي لخفض الانبعاثات المسببة لظاهرة تغيّر المناخ. بالإضافة إلى عدم نجاح دولة مثل ألمانيا بالتخلي عن الفحم الحجري أيضاً، وإصرار بولندا على الاعتماد على الفحم الحجري بأكثر من 80% من حاجتها للطاقة الكهربائية. كل ذلك وغيره من العوامل جعلت «بروكسل» مكبّلة وغير مبادرة.
أصرّت تركيا على تصنيفها دولةً نامية لكي لا تُحرَم المساعدات!
وإذا كان هناك من يراهن على أن تكون دول الاتحاد الأوروبي الرافعة لتمويل صندوق المناخ بعد انسحاب واشنطن، تراجعت كل هذه الآمال في قمة بولندا، ليس بسبب أحداث فرنسا فقط، بل بعدما بدأ التفكير جدياً بتقوية الجيوش الأوروبية وعدم الاتكال على الأميركيين. وقد فسر ذلك، بأن هذا «التمويل العسكري» المستجد سيكون حتماً على حساب تمويل صندوق المناخ.
إنتاج النفط أولاً
من المؤشرات السلبية التي كانت لافتة أيضاً، موقف كل من الولايات المتحدة وروسيا والسعودية والكويت من تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بقضية تغيّر المناخ وتوصياته، وإصرارهم على أن لا ترد في النص مفردات توحي بالقبول بمضمون التقرير، والاكتفاء بالقول إن الدول الأطراف «أخذت علماً» بما ورد في التقرير. وهو موقف لم يكن مستغرباً بالنسبة إلى المتابعين للحرب على الطاقة والاقتصاد والأسواق في العالم في الفترة الأخيرة، ولا سيما بعد اتفاق أكبر منتجين للنفط في العالم (الولايات المتحدة والسعودية) على زيادة الإنتاج وانخفاض الأسعار، ما يعني زيادة الانبعاثات. وإذا ربطنا كل ذلك مع برامج وسياسات الدول المصنفة ناشئة أخيراً وفي طليعتها الصين، التي تراهن على أسعار نفط رخيصة وعلى زيادة الاستهلاك لزيادة النمو، يعني ذلك أن توقعات محاربة تغيّر المناخ باتت منعدمة في المرحلة القادمة، خصوصاً أن مع معظم التقارير الدولية ذات الصلة تؤكد أن لوقف زيادة درجة حرارة الأرض عن معدل درجتين فقط، علينا أن نبقي 80% من مخزون النفط والغاز تحت الأرض من دون تنقيب في المرحلة المقبلة.
الدول الأقل نمواً
لم يتغيّر شيء في الخطابات والمواقف والتناقضات العمودية منذ انطلاق مفاوضات المناخ رسمياً عام 1992. الانقسامات الأساسية بين الدول الغنية التي تتحمل المسؤولية التاريخية عن مراكمة الانبعاثات منذ ثورتها الصناعية، والتي لا تزال تتهرب من تمويل عملية الانتقال إلى الطاقات المتجددة والتكيّف مع تغيّر المناخ والتعويض عن الأضرار التي ستنجم عبر الاشتراط على البلدان النامية باتخاذ إجراءات تخفيفية، ومطالب هذه الأخيرة بالتعويضات والتمويل وعدم إلزامها بما لا تستطيع ومنحها المزيد من الفرص في استخدام الوقود الأرخص من أجل الوصول إلى درجات النمو التي وصلت إليها الدول المتقدمة.
ولا يزال الجدل يدور حول تصنيف الدول بين متقدمة ونامية وبلدان أقل نمواً التي حدد عددها بـ47 دولة، وهي التي ستحصل على المساعدات «الرمزية»، «أولاً» وقبل غيرها، وهو ما يعتبر مدخلاً للدول المتقدمة لكي لا تدفع كثيراً وكي لا تظهر في الوقت نفسه أنها تعرقل مفاوضات المناخ وأنها تتهرب من مسؤولياتها.
وكان لافتاً في نهاية مؤتمر كاتوفيتسيه إصرار دولة مثل تركيا، كما في كل مرة تقريباً، على الاعتراض على تصنيفها دولةً متقدمة، وأنها تفضّل أن تصنف دولة نامية لكي لا تُحرَم المساعدات المتعلقة بتغيّر المناخ!
ضريبة الكربون
من القضايا التي لم تناقش بنحو رسمي ومنفصل في هذه الجولة من المفاوضات، والتي فرضت نفسها على محادثات الكواليس، إعادة النظر بما يسمى «ضريبة الكربون»، التي اعتبرت في وقت من الأوقات الأداة الضاربة لمحاربة تغيّر المناخ. والتجربة البالغة السلبية التي لم تنتهِ فصولاً في شوارع فرنسا بعد، في الدولة التي أبرمت فيها اتفاقية باريس منذ ثلاث سنوات والتي توج فيها الرئيس إيمانويل ماكرون «champion المناخ»... تلقت ضربة كبيرة على فكرة هذه الضريبة الكربونية.
لم يبتدع الرئيس الفرنسي «ضريبة الكربون» بالطبع. وقد بدأ الحديث عنها فعلياً أثناء صياغة بروتوكول كيوتو عام 1997، تطبيقاً للاتفاقية الإطارية لتغيّر المناخ التي أبرمت عام 1992، والتي كانت ملزمة للبلدان المتقدمة صناعياً. هي ضريبة على انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المنتجة بشكل رئيسي من الوقود الاحفوري، على أن تكون تصاعدية لناحية الوقت والقيمة لحين إيجاد البدائل. المحاولة الأولى لاعتمادها في فرنسا نفسها كانت عام 2000 مع حكومة ليونيل جوسبان ولكنها لم تطبق بحجة أن فرنسا تعتمد كثيراً على الطاقة النووية، وهي الأقل تسبباً بالانبعاثات من غيرها من الدول. ثم وضعت حكومة عام 2014 قانوناً لاحتسابها في الاستهلاك، وليس في الكهرباء، ثم لتصبح ضريبة على المنتج. وهي تطورت من 7 يورو على الطن عام 2014 إلى 44 يورو عام 2018، وكان مقترحاً أن تصل إلى مئة يورو عام 2022.
لا يزال الخلاف على طرق احتساب هذه الضريبة مدار جدل في فرنسا وغيرها، بالإضافة إلى الخلاف على توظيف عائداتها. فهل هي من أجل التحوّل الطاقوي، أم من أجل تغيير السلوك، أم غير ذلك. بالإضافة إلى مشكلة شموليتها ومن تستهدف، خصوصاً إذا كان في كل دولة صناعات أساسية مدعومة. ولطالما تناول الحديث الفرق بين ضريبة الكربون وسوق الكربون ومن يحدده. وكما هو معلوم، فإن سوق الكربون في الاتحاد الأوروبي انخفض سعره ليصل إلى 5 يورو للطن عام 2017، ثم عاد وارتفع إلى 20 يورو للطن نهاية عام 2018. وقد صدر الكثير من الأصوات المعترضة في فرنسا على هذه الازدواجية في الضريبة بين الدولة (الفرنسية) ومع الاتحاد ودوله أولاً، ولكونها غير عادلة ثانياً. مع العلم أن ليس هناك سوى 46 دولة في العالم تحاول أن تطبق ضريبة الكربون بطرق غير متساوية. أما المشكلة التي استجدت في فرنسا والتي كشف عنها أخيراً، أن 46% من عائدات هذه الضريبة ذهبت إلى الإصلاحات في البيئة، و44% منها ذهبت لتمويل الخزينة العامة للدولة، ما ساهم في زيادة دوافع الاعتراض عليها.