إثر ذلك، توقّفت بالفعل الاعتداءات الإسرائيلية على مطار دمشق، لتعود بعد أشهر قليلة، من دون أن تمنعها القوات الروسية. والذريعة الإسرائيلية هذه المرّة، والتي نقلها الروس إلى القيادة السورية، كانت أن لدى تل أبيب معلومات حول استخدام الإيرانيين طائرات الشحن والسفر المدنية لنقل معدّات وأسلحة استراتيجية إلى سوريا ولبنان. وإذ لم يُثبِت الإسرائيليون مزاعمهم تلك، فإن القوات الروسية لم توفّر الأمن لمطار دمشق كما اتُّفِق سابقاً.
تعطيل خطّ طهران ــ دمشق الجوّي
في الهجوم الأخير، وبعدما أبلغ الإسرائيليون، الروس، عبر آلية التنسيق المشتركة بينهم، بنيّتهم استهداف مطار دمشق الدولي قبل نحو ساعة من التنفيذ، أغارت الطائرات على المدرجَين الجنوبي والشمالي. سبق ذلك، في العشرين من الشهر الفائت، استهداف المدرج الشمالي بصواريخ أرض - أرض، أُطلقت من الجولان المحتلّ، بغرض تعطيله تماماً. لكن اكتشف الإسرائيليون أن طائرة إيرانية تمكّنت من الهبوط بعد تلك الضربة من دون مشاكل، فعاودوا الكرّة الأسبوع الفائت، لكن مع تكثيف الغارات بحيث تُخرج المطار عن الخدمة تماماً. وقد كان الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، الجنرال تامير هيمان، واضحاً في التعبير عن هذه الغاية بقوله: «يجب وقْف الرحلات الجوّية من إيران إلى سوريا».
جدال «حادّ»
خلال الأسابيع الفائتة، تردّد حديث عن وقوع جدال وُصف بـ«الحادّ»، بحسب مصادر عسكرية سورية، بين ضباط كبار في قيادة أركان الجيش السوري، وزملائهم من المستشارين العسكريين الإيرانيين من جهة، وممثّلين بارزين عن القوات الروسية من جهة أخرى، حول تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا عموماً، وحول مسألة تأمين العاصمة دمشق ومطارها بشكل خاص. وبحسب المصادر، طالب السوريون والإيرانيون، الروس، بـ«وضع حدّ للهجمات الإسرائيلية على المنشآت والبنى التحتية المدنية السورية، وتنفيذ تعهّداتهم بناءً على الاتفاق السابق»، ليردّ الضبّاط الروس، بحسب المصادر، بالتأكيد أنهم «غير معنيّين بالاشتباك مع الإسرائيليين حماية للمصالح الإيرانية، كما أنهم غير معنيّين بالاشتباك مع الإيرانيين تأميناً للمصالح الإسرائيلية». وهنا، أشار الجانب السوري إلى أن «المطلوب من القوات الروسية التزام الاتفاقيات الدفاعية والأمنية الموقّعة مع الدولة السورية، والمساعدة في تأمين منشآتها الرسمية والحيوية، كالمرافئ والمطارات»، من دون التذرّع بقضيّة المواقع الإيرانية خارج هذه المنشآت.
وبعد ذلك بوقت قصير، زار الرئيس السوري، بشار الأسد، طهران، حيث التقى المرشد الأعلى علي الخامنئي، والرئيس إبراهيم رئيسي، فضلاً عن قيادة الحرس الثوري، في ما فُهِم روسيّاً على أنه تمسّك من الأسد باستمرار التعاون مع طهران على مختلف الأصعدة، ومنها عمل المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا.
الضغوط على دمشق
يعلّق الكاتب الإسرائيلي، يؤاف ليمور، على الهجوم الأخير بأن «التلميح إلى سوريا كان مباشراً وواضحاً، ويعبّر عن الإحباط لدى الجانب الإسرائيلي، فعلى رغم كلّ الجهود والمحاولات والهجمات، ما زالت إيران تواصل مشروعها». ويضيف: «في سنواتها السبع، حقّقت المعركة بين الحروب نجاحات كثيرة (...) ولكنها فشلت في اجتثاث الإرادة الإيرانية». ويؤكد ليمور أن «الجهد المطلوب الآن هو ممارسة ضغط إضافي عليهم، ليس ضغطاً إسرائيليّاً، بل ضغط سوري، وذلك بدفع بشار الأسد إلى الاستنتاج أن الثمن المباشر الذي سيدفعه لاستمرار النشاط الإيراني في بلاده، سيكون أعلى من الثمن الذي سيدفعه في مواجهتهم»، مستدركاً بأن «من المشكوك فيه ما إذا كان الأسد يريد تقييد الإيرانيين».
طالب السوريون والإيرانيون، الروس بـ«وضع حدّ للهجمات الإسرائيلية على المنشآت والبنى التحتية المدنية السورية»
وفي الاتجاه نفسه، تؤكد مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، أن «عدداً كبيراً من الهجمات الإسرائيلية على سوريا، خلال الأشهر الأخيرة، لم تكن تحقّق أهدافاً حقيقية، إذ لم تكن هنالك أهداف أصلاً، بل إن الهدف منها هو التدمير والإيذاء لممارسة المزيد من الضغوط على الدولة والشعب في سوريا». وعقب الاستهداف الأخير، وأكثر من أيّ وقت مضى، ارتفعت حدّة تذمّر ضباط كبار في الجيش السوري من أداء القوّات الروسية.
ظروف الدفاع الجوّي
بعيداً عن الكلام الإعلامي، فإنه لم يُطلب يوماً من القوات الروسية أن تتصدّى بنفسها، بمنظوماتها وعسكرييها، للغارات الإسرائيلية. وأصلاً، لم يعتقد أحد في دمشق، ولا طهران أو بيروت، أن الروس في وارد الاشتباك المباشر مع العدو. إنّما ما يجري الحديث عنه اليوم، كما في مرات سابقة، هو مطالبة القوات الروسية بإعادة تأهيل الدفاع الجوّي السوري، وتعزيزه وتطويره، بشكل يصبح معه قادراً على التخفيف إلى الحدّ الأقصى من أضرار الهجمات الإسرائيلية، فضلاً عن استغلال علاقات موسكو بتل أبيب، لممارسة ضغوط على الأخيرة لوقف اعتداءاتها، أو تخفيفها بالحدّ الأدنى.
ويتعمّد العدو، في كل مرّة، تدمير عدد من منظومات الدفاع الجوّي التي تتصدّى للصواريخ. وخلال هذا العام فقط، تمكّن من تدمير 3 إلى 4 منظومات «بانتسير» (روسية الصنع - عددها محدود في سوريا)، لما أبدته من قدرة على التصدي. كما تجدر الإشارة هنا، إلى أن أيّ خسارة تكبّدتها قوات الدفاع الجوي في سوريا خلال أشهر مضت، على مستوى المنظومات والذخائر، لم يجرِ تعويضها روسيّاً حتى الآن. ويتذرّع الضباط الروس الكبار، عند مطالبتهم بالمساهمة في التعويض، بالحظر التركي على تحليق الطائرات العسكرية الروسية، والذي يُعقّد الخدمات اللوجستية الروسية، وبحاجة روسيا إلى تلك الذخائر والمعدّات في حربها في أوكرانيا.
«هدوء» روسي بالغ
تُبدي روسيا في الميدان السوري، في الآونة الأخيرة، حالة من «التراخي»، سواء جنوباً في ما يتعلّق بالتصعيد الإسرائيلي، أو بالتحركات والتهديدات التركية المتزايدة شمالاً، توازياً مع انغماسها في الحرب الأوكرانية. لكن على عكس ما يُقال في بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية، لم يجرِ سحب أيّ قوات روسية من سوريا. وفي هذا السياق، يتململ الكاتب الإسرائيلي، يؤاف ليمور، من التعويل على روسيا في «كبح الإيرانيين في سوريا»، ويؤكد أن «إسرائيل وحدها في المعركة»، ما يلزمها «البحث عن طرق جديدة لتحسين وتطوير المعركة بين الحروب».
خطة بينت وحدود الصبر
قبل نحو عامين، وعندما كان رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، وزيراً للدفاع لمدّة ستة أشهر بين تشرين الثاني 2019 وأيار 2020 في حكومة بنيامين نتنياهو، تحدّث عن أن الخطّة التي وضعها هو ستؤدّي إلى خروج إيران من سوريا في غضون 12 شهراً. اليوم، بعد مرور عامين، منهما عام قضاه بينت في رئاسة الحكومة، وبالنظر إلى وتيرة الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وخصوصاً على دمشق، يبدو أن خطّة بينت فشلت تماماً، إذ إن قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يؤكدون أن التعاون السوري - الإيراني آخذ في التزايد.
اليوم، يجري الحديث عن بداية تبلور قرار بـ«ضبط» موازين الردع بين سوريا وحلفائها من جهة، والعدو الإسرائيلي من جهة أخرى. ومع أن «الصبر الإيراني»، المجرّب، طويل بما فيه الكفاية على المستوى الاستراتيجي، إلّا أن ثمة اعتقاداً بأن الصلف الإسرائيلي تجاوز «حدود الصبر». وكما أن العدو يعتقد أن عدم إحياء الاتفاق النووي، يلعب لمصلحة إسرائيل، التي صار يمكنها التصرّف بحرية نسبية في مواجهة إيران وحلفائها، فإنّ في عواصم «محور المقاومة» من يعتقدون أيضاً بأن هذا الواقع يوسّع هامش المناورة لدى قوى «المحور»، ويخفّف عنها قيود حسابات سياسية معقّدة، ويحفّزها على العودة إلى تفعيل برامج تعديل موازين الردع.