الفوضى هي التربة الخصبة لعمل «الجهاديين». هذه هي الحقيقة التي دأب منظّرو «الجهاد» وقادته منذ عقود على تأكيدها، وأثبتت مجريات الحدث السوري دقّتها. وعلى رغم أن «الرايات السود» ما زالت حاضرة في سوريا، فإن فعاليتها قد انخفضت بفعل تضييق رقع انتشارها، وانحسار الفوضى عن مناطق واسعة من الجغرافيا السورية. اليوم، تنفتح الاحتمالات من جديد على بدء فصل إضافي من الفوضى، بما يعنيه من فعالية «جهادية» محتملة.سُجّلت، أمس، أول حالة «تمرّد جهادي» جماعية عقب انطلاق عمليات الغزو التركي المسمّاة «نبع السلام». وتناقلت مصادر إعلامية محسوبة على «قوات سوريا الديمقراطية/ قسد» مقاطع مصورة لحالة التمرد التي نفّذتها «نساء داعش» المحتجزات في قسم «المهاجرات» في مخيم الهول في الحسكة. بطبيعة الحال، لا يمكن عدّ الحادثة أمراً مستغرباً، إلا بالنظر إلى توقيتها الذي جاء أبكر من المتوقع. وبات معروفاً أن «قسد» ما فتِئَت تحذّر من أن أي اعتداء تركي سيكون بمثابة تقويض لجهود محاربة «داعش»، مع الإشارة خصوصاً إلى مخيمات اعتقال «الجهاديين» الواقعة تحت سيطرتها، والمحتضِنة آلافاً من نساء التنظيم وأطفاله، علاوة على عدد من مقاتليه القدامى. لم تنجح التحذيرات في دفع الدول الأوروبية إلى اتخاذ موقف حاسم من الهجوم التركي، لا سيما في ظلّ الموقف الأميركي الرافض لتبنّي مشكلة «الجهاديين الأوروبيين»، وفقاً لما كشفته مواقف الرئيس الأميركي في هذا الشأن، إذ اعتبر أن «مسؤولية مخيمات أسرى داعش باتت على عاتق تركيا».

«قسد» والملف «الذهبي»
كانت «قسد» قد راهنت طويلاً على إمكانية استخدام هذه الورقة، لنيل شيء من «الشرعنة» الدولية لها، بوصفها «كياناً حاكماً». على أن مقترحات إجراء محاكمات دولية داخل المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد»، بالتنسيق مع «الإدارة الذاتية»، لم تجد طريقها إلى الواقع. أحد الأسئلة الخطيرة التي تطرح نفسها بقوة اليوم يرتبط بمصير «مخيمات الجهاديين»، ومدى قدرة «قسد» على الذهاب بعيداً عبر تسهيل هروب المحتجزين. وتفتح حساسية هذا الملف الباب أمام احتمالات عقد «صفقات قذرة» بين «جهاديي داعش» المعتقلين، وبين هذا الطرف أو ذاك. وليست القدرة على عقد هذا النوع من الصفقات مقتصرة على «قسد»، بل ينسحب الأمر على لاعبين كثُر، قادرين على استثمار المجريات لإعادة خلط الأوراق «الجهادية» في سوريا، كما في العراق.
لا يزال «داعش» يمتلك القدرة على شنّ بعض العمليات «الانغماسية» الخاطفة


ولا يزال «داعش» يمتلك القدرة على شنّ بعض العمليات «الانغماسية» الخاطفة، وتنفيذ بعض الكمائن، لا سيما في شرقيّ الفرات حيث ذاب المئات من عناصره (الأمر عينه ينطبق على العراق). وكان العدد الأخير من صحيفة «النبأ» الأسبوعية، الصادر عن التنظيم المتطرف (صدر العدد أول من أمس، الخميس)، قد تحدث عن «عملية انغماسية ومداهمة»، نفذها «جنود الخليفة» في الرقة. وأشار العدد المذكور إلى أن التنظيم قد نفّذ 20 عملية في سوريا. أما افتتاحية العدد ما قبل الأخير (الخميس 4 تشرين الأول/ أكتوبر) فكانت قد أُفردت للحديث عن «مرتدّي الصحوات»، في إشارة إلى مقاتلي المجموعات المسلحة كافة (وخاصة المحسوبة على أنقرة). مُهرت الافتتاحية بعنوان «الصيف أضعتم اللبن يا مرتدّي الصحوات» (مَثَل قديم كناية عن إضاعة الخيرات بسبب الطمع)، وأشارت إلى «إصدار مرئي» عدّته «أول ظهور إعلامي لجنود الدولة الإسلامية بعد حملة الباغوز»، وفيه يعلن عدد من «جنود الخلافة في الشام» أنهم «يجدّدون البيعة» لزعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، ويعاهدونه على «استمرار الجهاد لإقامة الدين». وإذا ما رُبط هذا النشاط الإعلامي بتأكيدات متتالية لعدد من مسؤولي التنظيم «الاستعداد لجولات أخرى من الجهاد الشامي»، وبتحذيرات صدرت عن جهات عديدة، بعضها أميركي رسمي، من قدرة التنظيم على «العودة»، فإن النتيجة قد تكون فصلاً «داعشياً» دموياً جديداً بالفعل.

«الصفقات القذرة» تقترب؟
اللافت أن حديث «الصفقات» المحتملة انطلق في الوقت عينه في بقعة جغرافية سورية أخرى، وهي طبعاً محافظة إدلب. وفي خلال الأيام القليلة الماضية، تناقلت مصادر عديدة أنباءً عن «مفاوضات» بين عناصر من «هيئة تحرير الشام» وآخرين من تنظيمات «جهادية» أخرى من جهة، وأنقرة من جهة ثانية. مضمون المفاوضات يتمحور حول «ترانسفير» تركي، يسهّل انضمام مجموعات «نخبة» من «الجهاديين» إلى مجموعات «الجيش الوطني» الذي يقاتل تحت راية أنقرة ضدّ «قسد». في واقع الأمر، يُستبعد إقدام أنقرة على خطوة من هذا النوع، لا سيما أن المعارك لا تزال في بواكيرها، وأن مؤشرات القوة على الأرض تصبّ في مصلحتها. غير أن تزايد ترويج الإشاعات، على الجانبين، يضع على الطاولة ملفاً خطيراً، عنوانه العريض «الفوضى الجهادية».
وتمتلئ كواليس إدلب بعوامل كافية لتصدير الفوضى، وعلى رأسها الخلافات والتجاذبات في صفوف «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين). وفي خلال الأسبوعين الأخيرين، صدرت بيانات عديدة عن غير جهة «جهادية» تتناول موضوع «المهاجرين»، يؤكد بعضها «العلاقة الأخوية» بين هؤلاء وبين «هيئة تحرير الشام»، فيما تلمّح أخرى إلى تفاقم «العداء بين الطرفين». اللافت أيضاً أن بعض المرجعيات «الشرعية» قد أعادت إلى التداول أخيراً الحديث عن «ضرورة تشكيل كيان جامع يضمّ كل المهاجرين»، حتى ولو كان هذا الكيان «تنسيقياً» فحسب. وتبدي مصادر «جهادية» محسوبة على «المهاجرين» مخاوف من قيام زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، بعقد «صفقات» تسهّل النيل منهم، فيما تستبعد مصادر أخرى إقدام الجولاني على خطوة من هذا النوع، بسبب احتمال حاجته إلى «مؤازرة جهادية» حال اندلاع معركة تلوح في الأفق. ووسط هذه الأجواء، تشير معلومات مؤكدة إلى ارتفاع في وتيرة تهريب البشر من إدلب إلى خارجها (وفي مختلف الاتجاهات). وتُدار تلك العمليات من قِبَل عناصر محسوبين على «تحرير الشام» لقاء مبالغ مادية باهظة، الأمر الذي يمكن إدراجه في خانة «تحقيق المكاسب المادية». غير أن بعض الأقاويل تشير إلى احتمال استغلال المنافذ وخطوط التهريب المتاحة، لتصدير «الجهاديين» إلى شتّى الاتجاهات.



أكثر من ألف «جهادي» في منطقة العمليات
نقلت وكالة «رويترز»، أمس، عن مسؤولَين أمنيَّين أن تركيا تعتقد بوجود أكثر من ألفٍ من مقاتلي «داعش» قيد الاحتجاز في المنطقة التي يستهدف جيشها السيطرة عليها في شمال شرق سوريا، معظمهم «جهاديون» أجانب من أوروبا والولايات المتحدة. وقال أحد المسؤولَين، مشترطاً عدم نشر اسمه، إنه «يقدّر أن هناك ما يقرب من 1200 إلى 1500 مسلّح من داعش في مبانٍ تُستخدم كسجون في داخل المنطقة التي تنفذ فيها تركيا العملية». وأشار المسؤول إلى أن تركيا لم تتلقّ إخطاراً رسمياً بشيء، لكنه تحدث عن معلومات من مصادر مختلفة في الميدان، موضحاً «أن من بين المقاتلين المحتجزين أعداداً كبيرة من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا». وأضاف أنه «لن يتم إطلاق سراح المقاتلين الإرهابيين، ومع ذلك ستكون هناك مبادرات أيضاً لإعادتهم إلى بلادهم الأصلية». في غضون ذلك، أعلنت «قسد»، أمس، أن خمسة معتقلين من «داعش» فرّوا من أحد السجون التي تديرها بعد سقوط قذائف تركية في جواره في مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا.
(الأخبار)