خرج آخر المسلّحين من مدينة حلب قبل انصرام العام الماضي. لم يغامر الشارع الحلبي برفع سقف طموحاته، كان الجميع يعلم أن الطريق طويلٌ جدّاً نحو «قيامة المدينة». لكن ما لم يتردد الحلبيّون وقتَذاك بفعله هو التفاؤل بأنّهم على وشك استقبال حقبةٍ جديدة يضمنون فيها بالحدّ الأدنى أن يكون موتُ واحدهم ناجماً عن أسباب طبيعيّة فحسب.
على امتداد الشهور الستة الماضية، عرفت المدينة أزماتٍ متتالية تشابه ما عرفته معظم المناطق السورية التي مرّت بسيناريوات مماثلة: «أبطال التعفيش» لم يوفّروا الفرصة وكانت لهم صولات وجولات في القسم الشرقي من المدينة، انتهت موجة «التعفيش» لتنطلق موجة الأتاوات التي راح بعض «أبناء الحرب» يفرضونها في مناطق سطوتهم، متخيرين المناطق الصناعية على وجه الخصوص. على أطراف المدينة، كانت أتاوات مشابهة تُفرضُ على كل البضائع الواردة غذائيّة كانت أو دوائيّة أو غيرها، ومصحوبةً بفرض مبالغ على كل ما يتم شحنه إلى المدينة تحت عنوان «الترفيق». والأخير هو إجراء قوامه إلزام كل الشاحنات التي تنقل البضائع بالسير في قوافل تنطلق في مواعيد محدّدة مصحوبة بمرافقة مسلّحة في مقابل دفع مبالغ تُحدد وفقاً لنوع البضائع وكمياتها، والهدف هو «حماية القوافل من النهب»، رغم أنّ تلك القوافل تقطع طرقاً واقعة من حيث المبدأ تحت سلطة الدولة السورية وتنتشر فيها عشرات الحواجز. انتهى كابوس «الترفيق» بقرار رسمي، لكنّ الحلبيين لم يعرفوا إلى راحة البال سبيلاً.

الجميع يعلم
أن الطريق طويلٌ
جدّاً نحو «قيامة المدينة»
ففي خلال الشهرين الماضيين، بدأت بعض مظاهر «التشبيح» المعهودة تزدهر بكثافة في المدينة المنكوبة: سيارات «مفيّمة» بلا نمر، لباس عسكري منتشر بكثافة بفضل عناصر ينتمون إلى لجانٍ وتشكيلات بتسميات مختلفة. إطلاق رصاص بـ«مناسبة» ومن دونها. قبل أسبوعين، أشارت «الأخبار» إلى تنامي هذه المظاهر (راجع العدد 3186) ولم يكن الأمر يحتاج إلى بصيرة نافذة لإدراك أن هذا «الازدهار» لن يلبث أن «يؤتي ثماره». في خلال الأسبوع الأخير، «أينع الزرع». ثلاثة حوادث جرميّة متتالية في صورٍ شتّى: سيّارة «مفيّمة» بلا نمر دهست الطبيبة تالار فوسكيان في حي السليمانيّة وأردتها قتيلة ولاذ السائق بالفرار، اعتداء في حي الموكامبو طاول خمسة من لاعبي كرة القدم في نادي الاتحاد لأنّ جار أحدهم أزعجته أصواتهم العالية فـ«فش خلقه» باستخدام بندقيّة يحتفظ بها في منزله (تم توقيف المعتدي لاحقاً). أما أحدث ضحايا هذه الموجة، فكان الطفل أحمد جبر جاويش (13 عاماً) الذي «ضايق» أربعة مسلّحين من «اللجان الشعبيّة» بإلحاحه عليهم أن «يشتروا منه علكة» فأرداه أحدهم بطلق ناري في مؤخرة رأسه ببساطة! قبل أن يستقلوا سيارتهم الـ«بلا نمرة» وينطلقوا. كالمعتاد، بدأ البعض بتداول أنباء عن «مساعي الجهات المختصة لمعرفة الفاعلين والقبض عليهم» وكأنّ الأمر مجرّد حادث عرضي يُحل بمجرّد القبض على الفاعلين (إن تم)، وليس جزءاً من ظاهرة هي في الواقع مقدمة انفلات أمني. ثمة أجزاء أخرى لهذه الظاهرة، يمكن الوقوف على أحدها في حيي صلاح الدين وسيف الدولة وما حولهما حيث يخيّم كابوس اسمه «العناجرة» (نسبة إلى قرية عنجارة) على حياة السكّان عبر استعراضات قوّة وفرض سلطة وأتاوات. تكتمل الصورة مع عودة ظاهرة الخطف وطلب الفدى لمد رأسها من جديد، فيما يستمر انتشار بطاقات تُسمى «بطاقات أمنية» يتم استخدامها للمرور على الحواجز و«مآرب أخرى»، يمكن للراغب شراؤها حيث «لكل بطاقة ثمن»، وتحمل أسماء تشكيلات مختلفة مثل «كتائب البعث»، «لواء الباقر» وغيرهما. «ماذا بعد»؟ سؤال بدأ بالانتشار في الشارع الحلبي، مع التخوف من الأسوأ. هذه أيضاً «حلب 2017».