نجح النائب السابق فارس سعيد في صهر 14 آذار وأمانتها العامة بشخصه. لا يكاد الرقم 14 يُذكر حتى تقفز صورته الى الأذهان. وهو، منذ لقاءات قرنة شهوان والبريستول، وصولاً الى اجتماعات «بيت الوسط»، حاضر دائم بين «الكبار». يندر أن تجد حدثاً لقوى 14 آذار لا يكون فاعلاً فيه، ويندر أن يخلو كادر صورة صحافية منه متوسطاً طاولة اللقاء، أو إلى يمين من يتوسطها. لا يحتمل ترف إزعال أحد، ولا يعدم وسيلة لتدوير الزوايا مع من يزعلون منه. وفي انتظار اجتراح معجزة قانون انتخابٍ يعيد إليه «ملكيته» في مقعد جبيل، يبقى مقعد الأمانة العامة خيراً من ألا يجد مقعداً يجلس عليه. آل سعيد أساساً ليسوا عائلة سياسية. الجدّ فارس تخرّج طبيباً في الجامعة اليسوعية سنة 1906. خدم في الجيش التركي في الحرب العالمية الاولى، وعُيّن إثر عودته الى لبنان «طبيب قضاء» في جبيل، فسكن قرطبا. وعلى الطريق نفسه، سار الابن انطون الذي تخرّج عام 1951 جراحاً، وأنشأ مستشفى «سانت أنطوان» في بيروت نهاية 1956. فتح مجيء فؤاد شهاب الى سدة الرئاسة عام 1958 المجال أمام انخراط أنطون، الشهابي، في الحياة العامة، فخاض الانتخابات عام 1960 في قضاء جبيل منفرداً، لكنه لم يوفّق. وأعاد الكرّة في 1964. وتمكنت لائحته «الدستورية»، بتدخل مباشر من السلطة وبدعم من المكتب الثاني، من إسقاط ريمون إده ولائحته.
لم تمضِ سنة حتى توفي أنطون سعيد في 15 أيار 1965، فخاضت زوجته نهاد جرمانوس سعيد (32 عاماً) انتخابات فرعية قاسية في وجه ريمون إده وخسرت أمامه. وفي انتخابات 1968 خسرت أمام «الحلف الثلاثي» الذي ضم ريمون إده على رأس «الكتلة الوطنية» وحزبي الأحرار والكتائب.
فارس سعيد هو الثالث في العائلة المكوّنة من 6 أولاد (4 بنات وصبيّان). درس في «الليسيه الفرنسية». أنهى المرحلة الثانوية عام 1975 مع بداية الحرب، وسافر الى باريس لدراسة الطب، التزاماً بالمسار المهني للعائلة، قبل أن يعود نهاية 1989 الى لبنان لمتابعة مسيرة العائلة السياسية.
خاض في حياته تجارب سياسية فلامس أحزاباً يسارية ويمينية، وتأثر بقراءات عن ماركس وعبد الناصر وكمال جنبلاط. غير أن قريبين منه يؤكّدون أن حياته حكمتها عقدة سقوط والدته في فرعية جبيل سنة 1965. فرغم صغر سنه يومها (كان في السادسة من العمر)، جعلت صورة الوالدة القوية وأجواء العائلة والمنطقة هذا الحدث مؤسساً لشخصيته، فبقي في القرن الواحد والعشرين آخر «دستوري» و«نهجي» و«شهابي» في مواجهة الكتلويين و«الحلفويين» والشمعونيين. وهذا ما دفعه، وعائلته، منذ منتصف الثمانينيات إلى التقرب من سمير جعجع. كان الأخير يومها قد أطل من جبيل نفسها بصورة الثائر، مسيحياً وإنسانياً ووطنياً. رصدت العائلة في جعجع وفكره عناصر جاذبة، على خلفية العقدة التاريخية. فهو بدأ انتفاضته على بيت الجميّل، وهذه عقدة سياسية ونفسانية عزيزة جداً على قلب فارس، وأكثر بكثير على قلب مرشده سمير فرنجيه الذي لا يزال، حتى اليوم، يرى أن رئاسة الجمهورية سرقت من والده حميد سنة 1952 نتيجة خبث بيار الجميّل الجد.
رأى آل سعيد في جعجع عدوّ أحد أعدائهم التاريخيين، الكتائب، فتقرّب فارس منه. وبعدما أحكم جعجع سيطرته على القوات ودخل في سجال عنيف مع ريمون إده، ازداد إعجاب فارس به، وبات هو وشقيقه كريم، منذ منتصف الثمانينيات، شبه ملتزمين بمناخ قائد القوات. وبعد عودة فارس من فرنسا، جمعته مع جعجع لقاءات فكرية في مواعيد ثابتة.
مع دخول قائد القوات السجن مطلع التسعينيات، رأى فارس سعيد وسمير فرنجية أن الفرصة سنحت لـ«الثأر التاريخي» من كل التركيبة المسيحية التي أقصتهما وأقصت بيتيهما طيلة عقود. يومها وضع فرنجية وثيقة شهيرة عرفت باسم «وثيقة الحكمة» (نوقشت في مؤتمر في مدرسة الحكمة في الأشرفية)، مفادها أنه منذ قيام لبنان كان هناك انقسام بين مسيحييه. قسم «انعزالي» مع الغرب، وآخر عروبي يمثل «الشرعية التاريخية للمسيحيين». وفي عرض تاريخي، تتطرق الوثيقة الى أن تأسيس «لبنان الميثاق» كان نتيجة تحالف القوى العربية الأساسية مع «تيار الشرعية». توحي بأن ما خرّب لبنان وسوريا معاً هو انقلاب دمشق عام 1976 على نهجها التقليدي، وتحالفها مع التيار الانعزالي على حساب التيار العروبي. وتشرح الوثيقة كيف أن هذا الخيار كان كارثياً، لأن «الانعزاليين» طعنوا سوريا وذهبوا إلى إسرائيل، لتخلص إلى أن هذه هي اللحظة المثالية (بداية التسعينيات) لتصحيح خطأ 1976 والرهان على رموز «تيار الشرعية المسيحية التاريخية»، بعدما انتهى كل رموز «التيار الانعزالي» بين المنفى والمعتقل والموت.
على ضوء هذه الوثيقة ذهب فرنجية لمحاورة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام. لكن الأخير، بثعلبيته الشهيرة، عرف ما يريد سمير، وعرف ما يريده هو منه ومن حركته، فأظهر له بعض الاهتمام، لكنه طلب منه أمرين: التنسيق أكثر مع رئيس الحكومة الصاعد رفيق الحريري، والتقرب من البطريرك نصرالله صفير... عندها بدأت الرحلة الجديدة لفارس وسمير مع الاثنين، علماً بأن علاقة فرنجية بالحريري قديمة، تعود إلى زمن تكليف الأخير بالرعاية المالية لكل من كانت الرياض تهتم بهم. لكن بعد تلك الواقعة صارت العلاقة أكثر منهجية وشبه مؤسسية، واستمرت حتى قرنة شهوان، وتواصلت بعد 2005 مع وريث الحريري، نجله سعد الدين.
منذ وفاة أنطون، أخفق آل سعيد في استعادة مقعدهم النيابي، إلا في ظل «الوصاية السورية» التي لا ينفكّ النائب السابق وحلفاؤه عن تحميلها كل الموبقات. فقد قاطعت العائلة أول انتخابات بعد الحرب عام 1992 التزاما بقرار الكنيسة احتجاجاً على قانون الانتخاب. لكن الوالدة ارتأت خوض دورة 1996، رغم المقاطعة المسيحية الجزئية، لضمان توريث المقعد لابنها. وبالفعل، تمكنت من الفوز، قبل أن تسلّم «أمانة العائلة» الى نجلها الذي نجح في انتخابات عام 2000 وفق ما يعرف باسم «قانون غازي كنعان». هكذا، في لبنان، يمكنك أن تكون وريث بيت سياسي أمّاً عن أب، وعن طريق «المكتب الثاني»، من دون أن يمنعك ذلك من الضرب بسيف «الثورة» ضد حكم الاستخبارات والتوريث في دمشق.
بعد انتخابات 2005، بدأ كابوس فارس سعيد مع اجتياح «التسونامي» العوني المناطق المسيحية. مذذاك أصيب الرجل بـ«فوبيا» حزب الله بعدما أدت الأصوات الشيعية التي صبّت لمصلحة عون إلى حرمانه من مقعده النيابي. أسقِط في يد الرجل الذي ينظّر وفريقه السياسي، ليل نهار، للبنان التنوع والعيش المشترك والديمقراطية وحرية العمل السياسي. فلم يستطع كظم غيظه من طائفة بأكملها لمجرد أن أبناءها لم يصوّتوا له في الانتخابات. هكذا، باتت قرى هؤلاء «مستوطنات»، وصار أبناؤها «منسلخين عن مرجعياتهم السياسية ونسيجهم الاجتماعي»، و«مرتمين في أحضان حزب الله»، وكأن الأخير قادم من جزر القمر.
عاش سعيد «فوبيا» حزب الله «عَ الآخر»، فنسج روايات عن «انفتاح» الجرد الجنوبي لبلاد جبيل على البقاع في 7 أيار 2008 وعن تبادل أمني وعسكري بين القرى الشيعية الجردية والبقاع. ولا بأس في استغلال أي حادثة تشهدها بلاد جبيل للتصويب على الحزب، ولو كانت انفجار لغم قديم بسيارة تقلّ مطلوبين في جرود العاقورة، بينهم بعض أنصار سعيد نفسه!
منذ 2005 لا يكاد يخلو تصريح أو خطاب أو إطلالة تلفزيونية للنائب السابق من هجوم على الحزب وسلاحه و«دولته»، فيما لم ينبس بحرف، رغم طلاقته المعهودة، أمام «رئيس دولة عرسال الشقيقة» وهو يدعو العراسلة الى «حمل السلاح أينما حلّوا وأن يكونوا إما قاتلين أو مقتولين». كذلك لم يجد حرجاً، وهو بين ظهراني «قادة المحاور» الطرابلسيين، في وصف منطقة جغرافية تضم أبناء طائفة لبنانية بـ«العصابة المسلحة»، وتشبيه زعيمها (بحسب أرقام انتخابات عام 2009) بزعيم عصابة «فتح الإسلام».
فقط في لبنان يمكنك إعادة تعريف الديموقراطية، فلا تعود تعني الاحتكام الى رأي الناس كما يريدون هم، بل كما تريد أنت. وفقط في لبنان يمكن أن تتغنّى «بأن العالم باتت تسيّره قيم حقوق الإنسان»، ثم تحلّ ضيفاً مكرّماً على «خرّيجين» من منظمة «هيومان رايتس ووتش» كخالد الضاهر. وفي لبنان، أيضاً، يمكنك أن تدّعي أن «الثورة السورية» ليست بحاجة الى استخدام أرضنا «وكل ما في الأمر أن هناك نازحين وجرحى لا يطلبون سوى الطبابة»، فيما صواريخ «الصليب الأحمر» تتساقط على الهرمل. وفقط في لبنان، إذا كنت مارونياً وأخفقت في دائرتك الانتخابية، هناك دائماً «مقعد طرابلس الماروني» جاهز لاحتضانك. ويمكن سؤال إلياس عطاالله وسامر سعادة عن ذلك.