في رحاب «الشوك والقرنفل»
اختار القائد السنوار أن يترك لنا رسالته، في ما ترك، في قالب سردي يشبه الرواية، صدّرها بإهدائها «إلى من تعلّقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج من المحيط إلى الخليج، بل من المحيط إلى المحيط».
تتعدى قيمة القادة الأساطير النتيجة الميدانية المباشرة لأفعالهم. فالحكاية لا تنتهي باغتيال جيفارا أو باستشهاد السيد عباس الموسوي أو يحيى عياش؛ وإنما تصبح الشهادة فصلاً من فصول الملحمة المستمرة. وكذلك ملحمة استشهاد السنوار تكتمل بملحمة «الشوك والقرنفل».

فإذا كان مشهد استشهاد السنوار، لا نقول النهاية ولكن الذروة لهذه المحلمة البطولية، فإن «الشوك والقرنفل» تروي لنا مشاهد البداية لمرحلة مهمة من مراحل العمل المقاوم ولسيرة حركة «حماس» وريادتها لهذه المرحلة من المقاومة. هذه الرواية لا تفترض النشأة من عدم ولا تجحد الجيل القديم حقه؛ فالأب الغائب في الأردن فدائي ضمن تنظيمات «الثورة الفلسطينية»، والأخ الأسبق إلى العمل المقاوم كان منتظماً في «فتح» وتربطه علاقات ما بين الود والصراع مع جارهم الذي ينتمي إلى «الجبهة الشعبية» ومع إخوته الذين يتجهون اتجاهاً إسلامياً. ولا يلجأ النص إلى القطيعة مع الفتحاوي إلا عندما يبدأ في تبرير أوسلو، وحتى في هذه تقدّمه الرواية صاحب منطق مغلوط لا عميلاً. وهذا جزء من حبكة «الرواية»: تطور وعي الإسلامي الذي يبدأ في أول الرواية ساذجاً وبعيداً عن العمل السياسي والفدائي، يقابله انسحاب الفتحاوي الذي كان في الأول رائداً في العمل الفدائي ليصبح مدافعاً عن أوسلو— قبل أن تعود فتح إلى ساحة النضال، في الرواية وفي الواقع، عبر «كتائب شهداء الأقصى».
في هذا الرواية يلتقي خطان: خط تجتمع فيه حكاية الأفراد التواقين إلى المشاركة في النضال، الذين لا تخفى غيرتهم من عناصر «فتح» و«الجبهة الشعبية» الذين سبقوا إلى العمل الفدائي، ولا يخفى إعجابهم بالوعي السياسي العالي الذي يتميز به أبناء الجبهة بحسب الرواية، ويضيق صبرهم في بعض الأحيان عن تأخر مشاركة الحركة الإسلامية في ساحات النضال المختلفة، الخط الذي، إن أردنا أن نقرأه عبر فلسفة العمل الثوري اللينينية والغرامشية، يمثل «تدخل الإرادة» في حركة التاريخ. وخط آخر يحكي «العوامل الموضوعية» التي فرضت مرحلة جديدة من الكفاح المسلح بالذات في أعقاب خروج المقاومة من بيروت وفي إطار الانتفاضتين الأولى والثانية.
كان السنوار يقول في تصريحاته إن حركة «حماس» لا تريد الحرب للحرب، ثم يستفيض بعدها في الأسباب التي تجبر الحركة وتجبر الشعب الفلسطيني على خيار المقاومة إلى النهاية. وفي «الشوك والقرنفل» نرى أن قرار تصعيد العمل المقاوم وتبنّي أشكال مختلفة من العمل المسلح لم يكن وليد حماسة مجموعة من الشباب ممن لديهم رفاهية اتخاذ القرار بمعزل عن ظروف الشعب الفلسطيني. على العكس، نرى أن أحداث الانتفاضة وبالذات أعمال الإرهاب الإسرائيلية، فرضت على الشعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه فكانت أشكال إبداعية من تنظيم الدفاع واستخدام الأدوات المنزلية في عرقلة تقدّم قوات العدو، وأمام الخطر الذي يمثله العملاء كان لا بد من آليات لحماية الناس منهم، ومن هنا جاء جهاز «المجد» الأمني (الذي شارك السنوار في تأسيسه والذي يروي الكتاب جانباً من حكايته دون أن يسميه)، ثم كان من الضروري الرد على العنف بالعنف فكانت عمليات الطعن والدهس التي لم تندرج ضمن إطار تنظيمي في البداية، ثم كان البحث عن السلاح، بندقية كارلوستاف من مخلفات الجيش المصري من هنا، كلاشينكوف مهرب من هناك. إبراهيم (بطل الرواية الذي تقترب حكايته من حكاية يحيى السنوار دون أن يكون هو) يبحث عن السلاح والذخيرة ثم يكتشف ضرورة أن تكون لدى الشعب ورش خراطة لإصلاح السلاح وصيانته. الشباب في ذروة المعركة وعندما لا يجدون في أيديهم ما يدفعون به العدو يتذكرون المفرقعات التي لعبوا بها في طفولتهم فيعيدون صناعتها على شكل متفجرات؛ يحيى عياش يبحث في كتب الكيمياء وفي المختبر عن أسلحة غير تقليدية ويصل إلى قرار أن هذه الأسلحة ينبغي ألا تستخدم «فقط ضد الأهداف المحصنة والمدرعة» أو لعرقلة دوريات العدو ولكن أيضاً في عمق الكيان؛ وهكذا تلتقي رواية الإنسان الذي يتوق إلى العمل الثوري والجهادي مع حكاية الشعب والاحتلال — في مكان آخر يسخر أحد أبطال الرواية من أخيه الفتحاوي عندما يستخدم مصطلح «الظروف الذاتية والموضوعية» (المستعار من الأدبيات الماركسية) لتبرير اتفاقية أوسلو، ولكن الرواية تقدم تحليلاً دقيقاً للظروف الذاتية والموضوعية التي أدت إلى انطلاق حركة «حماس» ولصعود مرحلة جديدة من مراحل العمل المقاوم توجب أشكالاً مختلفة، وفي بعض الأحيان إبداعية، من الكفاح المسلح.
وهنا تهتم الرواية بنقل الخبرات، الميدانية والتقنية في بعض الأحيان، لا للعمل التنظيمي فحسب ولكن أيضاً لأشكال العمل المقاوم المختلفة ولبعض التفاصيل المرتبطة بالعمليات النوعية للمقاومة. ولهذا لم يكن مستغرباً أن تحذفها المنصات التجارية وتحاول منع تداولها، بينما سارع جمهور المقاومة، عرباً وغير عرب، إلى تناقلها، في نسختها الأصلية وفي ترجمتها الإنكليزية.
لا يمكننا في مقال واحد أن نفي رسالة السنوار حقها، ولكن يمكننا أن نبدأ في تكليل مشهد شهادته بالاستماع إلى رسالته.
* باحث عربي
تتعدى قيمة القادة الأساطير النتيجة الميدانية المباشرة لأفعالهم. فالحكاية لا تنتهي باغتيال جيفارا أو باستشهاد السيد عباس الموسوي أو يحيى عياش؛ وإنما تصبح الشهادة فصلاً من فصول الملحمة المستمرة. وكذلك ملحمة استشهاد السنوار تكتمل بملحمة «الشوك والقرنفل».

(ماريا نصرالله)
فإذا كان مشهد استشهاد السنوار، لا نقول النهاية ولكن الذروة لهذه المحلمة البطولية، فإن «الشوك والقرنفل» تروي لنا مشاهد البداية لمرحلة مهمة من مراحل العمل المقاوم ولسيرة حركة «حماس» وريادتها لهذه المرحلة من المقاومة. هذه الرواية لا تفترض النشأة من عدم ولا تجحد الجيل القديم حقه؛ فالأب الغائب في الأردن فدائي ضمن تنظيمات «الثورة الفلسطينية»، والأخ الأسبق إلى العمل المقاوم كان منتظماً في «فتح» وتربطه علاقات ما بين الود والصراع مع جارهم الذي ينتمي إلى «الجبهة الشعبية» ومع إخوته الذين يتجهون اتجاهاً إسلامياً. ولا يلجأ النص إلى القطيعة مع الفتحاوي إلا عندما يبدأ في تبرير أوسلو، وحتى في هذه تقدّمه الرواية صاحب منطق مغلوط لا عميلاً. وهذا جزء من حبكة «الرواية»: تطور وعي الإسلامي الذي يبدأ في أول الرواية ساذجاً وبعيداً عن العمل السياسي والفدائي، يقابله انسحاب الفتحاوي الذي كان في الأول رائداً في العمل الفدائي ليصبح مدافعاً عن أوسلو— قبل أن تعود فتح إلى ساحة النضال، في الرواية وفي الواقع، عبر «كتائب شهداء الأقصى».
في هذا الرواية يلتقي خطان: خط تجتمع فيه حكاية الأفراد التواقين إلى المشاركة في النضال، الذين لا تخفى غيرتهم من عناصر «فتح» و«الجبهة الشعبية» الذين سبقوا إلى العمل الفدائي، ولا يخفى إعجابهم بالوعي السياسي العالي الذي يتميز به أبناء الجبهة بحسب الرواية، ويضيق صبرهم في بعض الأحيان عن تأخر مشاركة الحركة الإسلامية في ساحات النضال المختلفة، الخط الذي، إن أردنا أن نقرأه عبر فلسفة العمل الثوري اللينينية والغرامشية، يمثل «تدخل الإرادة» في حركة التاريخ. وخط آخر يحكي «العوامل الموضوعية» التي فرضت مرحلة جديدة من الكفاح المسلح بالذات في أعقاب خروج المقاومة من بيروت وفي إطار الانتفاضتين الأولى والثانية.
كان السنوار يقول في تصريحاته إن حركة «حماس» لا تريد الحرب للحرب، ثم يستفيض بعدها في الأسباب التي تجبر الحركة وتجبر الشعب الفلسطيني على خيار المقاومة إلى النهاية. وفي «الشوك والقرنفل» نرى أن قرار تصعيد العمل المقاوم وتبنّي أشكال مختلفة من العمل المسلح لم يكن وليد حماسة مجموعة من الشباب ممن لديهم رفاهية اتخاذ القرار بمعزل عن ظروف الشعب الفلسطيني. على العكس، نرى أن أحداث الانتفاضة وبالذات أعمال الإرهاب الإسرائيلية، فرضت على الشعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه فكانت أشكال إبداعية من تنظيم الدفاع واستخدام الأدوات المنزلية في عرقلة تقدّم قوات العدو، وأمام الخطر الذي يمثله العملاء كان لا بد من آليات لحماية الناس منهم، ومن هنا جاء جهاز «المجد» الأمني (الذي شارك السنوار في تأسيسه والذي يروي الكتاب جانباً من حكايته دون أن يسميه)، ثم كان من الضروري الرد على العنف بالعنف فكانت عمليات الطعن والدهس التي لم تندرج ضمن إطار تنظيمي في البداية، ثم كان البحث عن السلاح، بندقية كارلوستاف من مخلفات الجيش المصري من هنا، كلاشينكوف مهرب من هناك. إبراهيم (بطل الرواية الذي تقترب حكايته من حكاية يحيى السنوار دون أن يكون هو) يبحث عن السلاح والذخيرة ثم يكتشف ضرورة أن تكون لدى الشعب ورش خراطة لإصلاح السلاح وصيانته. الشباب في ذروة المعركة وعندما لا يجدون في أيديهم ما يدفعون به العدو يتذكرون المفرقعات التي لعبوا بها في طفولتهم فيعيدون صناعتها على شكل متفجرات؛ يحيى عياش يبحث في كتب الكيمياء وفي المختبر عن أسلحة غير تقليدية ويصل إلى قرار أن هذه الأسلحة ينبغي ألا تستخدم «فقط ضد الأهداف المحصنة والمدرعة» أو لعرقلة دوريات العدو ولكن أيضاً في عمق الكيان؛ وهكذا تلتقي رواية الإنسان الذي يتوق إلى العمل الثوري والجهادي مع حكاية الشعب والاحتلال — في مكان آخر يسخر أحد أبطال الرواية من أخيه الفتحاوي عندما يستخدم مصطلح «الظروف الذاتية والموضوعية» (المستعار من الأدبيات الماركسية) لتبرير اتفاقية أوسلو، ولكن الرواية تقدم تحليلاً دقيقاً للظروف الذاتية والموضوعية التي أدت إلى انطلاق حركة «حماس» ولصعود مرحلة جديدة من مراحل العمل المقاوم توجب أشكالاً مختلفة، وفي بعض الأحيان إبداعية، من الكفاح المسلح.
وهنا تهتم الرواية بنقل الخبرات، الميدانية والتقنية في بعض الأحيان، لا للعمل التنظيمي فحسب ولكن أيضاً لأشكال العمل المقاوم المختلفة ولبعض التفاصيل المرتبطة بالعمليات النوعية للمقاومة. ولهذا لم يكن مستغرباً أن تحذفها المنصات التجارية وتحاول منع تداولها، بينما سارع جمهور المقاومة، عرباً وغير عرب، إلى تناقلها، في نسختها الأصلية وفي ترجمتها الإنكليزية.
لا يمكننا في مقال واحد أن نفي رسالة السنوار حقها، ولكن يمكننا أن نبدأ في تكليل مشهد شهادته بالاستماع إلى رسالته.
* باحث عربي