الأذكياء من الأعداء يفكّرون بطريقة أكثر حذراً. هم أكثر جذرية في عدائهم للمقاومة فكرة وناساً وأدوات إنتاج، لكنهم يعرفون تجارب لبنان جيداً، كما يعرفون عن تجارب العالم. ولذلك، فهم يدعون إلى بناء سردية من نوع مختلف تجزم بأن لبنان بلد غير قادر على تحمل كلفة المقاومة، وأنه ليس هو المسؤول عن مقارعة إسرائيل، وأنه سيكون أقل عرضة للاعتداءات الإسرائيلية إن أحسن السلوك معها. ولذلك، يقترحون على الجمهور التالي:
أولاً: تحميل المقاومة مسبقاً المسؤولية عن كل ما تقوم به إسرائيل من جرائم، وإلصاق التهمة بالمقاومة عن كل جريمة أو غارة أو قصف تقوم به قوات الاحتلال، على الحدود أو في العمق أو حتى بين النازحين. وهم لا يمانعون قيادة التحريض على النازحين لمجرد أن بينهم شباناً يطلقون لحاهم. تخيّلوا أن هذا الفريق لا يريد من حزب الله إلقاء السلاح فقط، بل أن يحلق رجاله لحاهم أيضاً، وقد يطلبون قريباً من النساء خلع الحجاب. ألم يلجأ جماعة «الزمن الجميل»، قبل مدة، إلى نبش الأرشيف بحثاً عن صور لسيدات جنوبيات يلبسن المناديل بدل الحجاب الحالي، علماً أنهم هم أنفسهم كانوا يومها ينعتون من ترتدي منديلاً بالمتخلّفة، فيما باتوا اليوم يرونه جميلاً يمكنه المنافسة في عروض الأزياء!.
ثانياً: يعتمد هذا الفريق، في التغطية الإعلامية، على تثبيت صورة الدمار والموت وخراب البنى التحتية، واعتبار ذلك العنصر الذي يحسم انتصار العدو. وبين هؤلاء من كان قائداً أو قيادياً أو مشاركاً في ميليشيات قادت الحروب الأهلية، وتسبّبوا ليس بدمار كبير للأبنية والطرقات فقط، بل بسقوط آلاف الضحايا من المدنيين، وبرّروا أفعالهم بأنها فعل مقاومة للغريب، وأن الخسائر ثمن متوقّع لكل مقاوم، علماً أن كل خياراتهم فشلت.
يركّز أنصار إسرائيل على صورة الدمار والموت والنزوح، ويلحّون على جعل جدول الأعمال قائماً على بند واحد عنوانه: إن المقاومة انتهت إلى غير رجعة
وما يرد من غرف الأخبار في المنصات الإعلامية لأعداء المقاومة، في القنوات التي تموّلها وتديرها السعودية والإمارات العربية، يشرح كيف أن المطلوب الحديث فقط عن «إنجازات العدو»، من دون الإشارة إلى أفعال المقاومة. ويظهر ضيقهم عندما يقاطع مذيعو الأخبار ومقدّمو البرامج مراسليهم في كيان الاحتلال، وهم يعرضون الأخبار عن عمليات المقاومة التي تؤلم العدو، وعن صواريخها التي تطاول مناطق كثيرة، وعن عشرات الإصابات اليومية في صفوف قوات الاحتلال. وإذا ما حاول مراسل الإشارة إلى مقاومة يواجهها جنود العدو في العملية البرية، يسارع المذيع أو المذيعة إلى قطع الرسالة والعودة إلى عرض «إنجازات جيش الاحتلال»، حيث لا أخبار سوى صور القتل والدمار.
ثالثاً: يركّز هذا الفريق على جعل النقاش محصوراً في «يومهم التالي»، مفترضين أن الحرب انتهت، وأن زمن المقاومة انتهى إلى غير رجعة، وأن المقاومة ورجالها وناسها وداعميها وأنصارها يعيشون حالة إحباط (غريبة هذه النزعة عند بعض اللبنانيين الذين يصرون على أنه يفترض بالشيعة أن يعيشوا نكبة، ولربما يرون في ذلك عدلاً بين الرعية)، ثم يخرج من بينهم من يوجّهون النصائح باعتبارهم خبراء في التعامل مع حالات الإحباط، وذوي خبرة في التحوّل من موقع إلى آخر. ولا ينسى هؤلاء إبداء الاستعداد لتقديم العون لمن يرغب بالخروج من عالم المقاومة.
رابعاً: يفترض هؤلاء أن الحرب انتهت لحظة اغتيال القائد الأممي الشهيد السيد حسن نصرالله الذي حتى عندما يأتون على ذكره يتصرفون بحياء الخائف. وتخيّلوا أن بعض هؤلاء فكّر في مراسلة منصات التواصل الاجتماعي العالمية لمنع نشر خطبه بحجة أنها “تحرّض على الكراهية وعلى معاداة السامية». والكارثة، تكبر عندما يصاب “أذكياء» الأعداء، بنوبات من الغباء الفجائي، فيسارعون إلى قول ما يضمرون، ويربطون مصير المقاومة حصراً بالرجل. فيكون الحل عندهم التقليل من أهمية القيادة الجديدة التي تتولى الأمور، ليس بقصد نفي قدرتها على القيام بالمهمة، بل للقول إن هذه الجماعة باتت بلا قيادة، وبالتالي، يجب تسليم أمرها إلى «عاقل» تختاره لنا الولايات المتحدة، أو ربما يحال الأمر إلى مكتب التوظيف في الأمانة العامة السابقة لقوى 14 آذار!
هزل غير عادي يمر به لبنان، وندرة في الكلام السياسي المفيد، وهواء مليء بأنواع من الخبراء الذين يعرفون كل شيء، من إدارة برامج الذكاء الاصطناعي، إلى فنون الطبخ والأزياء، ولا مانع عندهم من الحديث عن أحوال الطقس.
نصيحة إلى من بقي في رأسه بعض العقل: حبّذا لو تفكّرون للحظة واحدة بأن حالة المقاومة عصيّة على التحلل، ليس فقط لأنها ذات شرعية أخلاقية وإنسانية، بل لأن سبب قيامها لا يزال قائماً، وهو الاحتلال. وكل من يفكر في أنه يمكن أن يقوم لدينا حكم يهتم بما يريده المجتمع الدولي، لجهة توفير متطلبات الأمن للعدو، وتحويل الناس إلى أُجراء عند الشركات العالمية، هو مجرد داعية إلى حرب أهلية. ومن يفترض أن العدو وكل رعاته سيسلمون من العقاب على جرائمهم، فهو جاهل بحقائق التاريخ. والمغامر فقط، من يصغي إلى السفيرة الأميركية التي تهتم فقط بقيادة لبنان نحو هاوية لا قعر لها، وهو جوهر مهمتها الحالية!