لم تنتهِ قضيّة وقف البر والإحسان خلف أسوار المحكمة الشرعيّة السنيّة، بل وصلت حممها إلى «عائشة بكّار»، حيث بدأت باكراً المعركة على خلافة المفتي عبد اللطيف دريان الذي تنتهي ولايته في نيسان 2025.مسار القضيّة القانونيّة - الشرعيّة تحوّل، كما في كثير من القضايا الكُبرى، إلى صراعٍ نفوذ سياسي ومعركة إثبات وجود مستترة داخل الطائفة بين الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة. طرفا القضية - مجلس أُمناء البر والإحسان والناشطون الذين تقدّم باسمهم المحامي محمّد خير الكردي باستدعاءٍ لإجراء تدقيق وتحقيق في أعمال المجلس - يخوضان مواجهة بالوكالة عن رئيس تيّار المستقبل ورئيس كتلته السابقة.
فهم السنيورة بعد «تدفّق الدماء» في جسد تيّار المستقبل إثر زيارة الحريري الأخيرة لبيروت في شباط الماضي، أن تصفية الحساب ستبدأ مع كلّ من تمرّدوا على قرار الحريري مقاطعة الانتخابات النيابيّة الأخيرة، ومن انقلبوا عليه عندما احتجز في الرياض. لذلك، «هبّ» رئيس الحكومة السابق إلى «نجدة» المقربين منه، وتحديداً، رئيس مجلس الأُمناء النائب السابق عمّار حوري، مستخدماً أدواته داخل المحكمة الشرعيّة لإثبات أنّه لا يزال مُتحكّماً بإدارة اللعبة.
في المقابل، ولأن الحريري يقطع تواصله مع المحسوبين عليه حينما تُغلق أبواب طائرته عليه في بيروت، ظنّ كثيرون أن دعم رئيس «جمعيّة بيروت للتنمية الاجتماعيّة» أحمد هاشميّة للناشطين في دعواهم ضد مجلس الأمناء مجرد «اجتهاد شخصي» منه، فيما الواقع أن الأخير ينسّق مع هاشميّة في «الصغيرة والكبيرة».
وهذا، على ما يبدو، ما لم يدركه رئيس المحاكم السنيّة الشرعيّة محمّد عسّاف الذي سبق أن نال دعم الحريري لخلافة دريان. فدخل في قلب الحرب الدائرة بين «المستقبليين» والـ«إكس مستقبليين»، ولم يحفظ «خط الرجعة»، وتغاضى عن المخالفات التي ارتكبها المستشار عبد الرحمن الحلو بالتّعاون مع آخرين داخل المحكمة، لاصدار قرارٍ بإبطال قرار تعيين ناظر حسبة على أموال وقف البر والاحسان الذي أصدره سابقاً القاضي الشرعي وائل شبارو. بل كان عسّاف واحداً ممن ساهموا في «ضبضبة» هذا الملف، ولم يعمد إلى تحييد نفسه، كما فعل في قضيّة متولي ومجلس إدارة وقف النهضة الإسلامية السنية الخيرية، عندما خالف القرار الصادر عن محكمة الاستئناف العليا لمصلحة الوزير السابق عبد الرحيم مراد، حتّى لا يُخيّب ظنّ الحريري به.
دعم هاشميّة الدعوى ضد مجلس أمناء البر والاحسان ليس اجتهاداً شخصياً وهو ينسّق مع الحريري في «الصغيرة والكبيرة»


وعليه، يبدو أن عسّاف أحرق مراكبه التي كادت أن توصله إلى «بر عائشة بكّار». إذ تؤكد معلومات «الأخبار» أنّ رئيس المحاكم السنيّة الشرعيّة تبلّغ رسالةً حاسمة من الحريري بالتراجع عن دعمه لتولّي منصب الافتاء. ويؤكد مقربون من الحريري أن الأخير بدأ البحث عن مرشّح جديد للإفتاء، وأنّ قنوات تواصل فُتحت مع بعض المرشّحين لخلافة دريان. ويشدّد هؤلاء على أن تيار المستقبل مستمر في دعم الناشطين الذين حرّكوا هذا الملف لـ«فضح» أي مخالفة ماليّة وقع مجلس الأُمناء فيها.
في المقابل، تعزو مصادر «جرأة» عسّاف في قطع خطوطه مع الحريري والتورّط «على المفضوح» إلى جانب متولي «البر والإحسان» مردّه سببان:
الأول، أنه يُريد «حرق» شبارو، أبرز المرشّحين لتولي منصب رئاسة المحاكم الشرعية في حال انتخاب عسّاف مفتياً، وخصوصاً بعد تدهور العلاقة بينهما أخيراً، وهو يفضل لهذا المنصب المستشار الحلو أو القاضي الشرعي الشيخ وسيم فلاح، فيما تشير مصادر إلى أن رئيس المحاكم قد يشكّل شبارو إلى مركز آخر قريباً كـ«عقابٍ له»، أو على الأقل تغيير اختصاص الغرفة التي يرأسها داخل محكمة بيروت لينزع منه اختصاص النظر في القضايا الوقفيّة.
الثاني، أن عساف تلقّى وعداً من السنيورة بتسهيل انتخابه مفتياً، وذلك بعدما بدأ «الأخير تحركاً للتمديد لـ«المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى» الذي تنتهي ولايته في تشرين الأوّل المقبل، والذي له الغلبة فيه. وتقول بقيّة الرواية المتداولة إنّ السنيورة وعد بإدخال بعض التعديلات على المراكز داخل دار الفتوى، وأبرزها نقل الشيخ أمين الكردي من منصب أمين الفتوى وإعادته إلى المحكمة الشرعية بصفة قاضٍ، منعاً لـ«الحرتقة»، إذ إن الأخير من الشخصيات المؤثرة والقوية داخل «عائشة بكّار».