في 29 تموز الماضي، راسلت وزيرة العدل السابقة، ماري كلود نجم، رئاسة مجلس الوزراء لقبول هبة عبارة عن دراسة أعدّها مكتب المحاماة السويسري «لاليف» بناءً على طلب الجمعية اللبنانية لحقوق المُكلّفين (تحمّلت كلفة الدراسة وقدّمتها للدولة اللبنانية). تتضمّن الدراسة «الوسائل القانونية المتاحة في سويسرا لاستعادة الأموال المُتأتّية من الفساد لمصلحة الدولة اللبنانية»، وقد تمّ التركيز فيها على القضية التي يواجهها حاكم البنك المركزي، رياض سلامة لأنّها أصبحت أمام القضاء السويسري ويوجد حولها أدلة عدّة. أعادت الدراسة ذكر عناصر الملفّ: العقد مع شركة «فوري» الموقّع بين سلامة (بصفته حاكم مصرف لبنان) وشقيقه رجا (نيابة عن شركة «فوري» للخدمات المالية)، الحسابات المصرفية لدى البنوك السويسرية، التحويلات المالية، الأصول في سويسرا وخارجها، الاشتباه بتبييض واختلاس الأموال... مع تقديم الاقتراحات للدولة اللبنانية بالإجراءات الواجب اتخاذها لاستعادة الأموال «المُهرّبة»، إن كان بقضية سلامة أو غيرها من الملفات. إلا أنّ مشروع المرسوم المُرسل من قِبل نجم، «عَلِق» في رئاسة مجلس الوزراء، فلم يصدر مرسوم (بموافقة استثنائية) يُنشر في الجريدة الرسمية لقبول الهبة. في 3 أيلول الجاري، أعادت وزيرة العدل التذكير بوجود الدراسة، مُرسلةً إياها إلى كلّ من: رئيس الجمهورية ميشال عون، رئيس مجلس الوزراء السابق حسّان دياب والنائب العام التمييزي غسّان عويدات. هذه الدراسة يُفترض بها أن تكون من أولويات حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، إلى جانب خطة التعافي الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ المالي والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمصارف و«استعادة الأموال المنهوبة»، فيما لو كانت فعلاً جدّية بالعمل «لمصلحة اللبنانيين»، كما يُعلن أعضاؤها. إضافةً إلى أنّ اتخاذ الإجراءات المناسبة، وبسرعة مع السلطات السويسرية، يُتيح للدولة اللبنانية «استعادة» بعض ما فقدته من العملة الصعبة، بما يُشكّل أحد الحلول البديلة من استمرار الاعتماد على القروض والارتهان للخارج.

بدايةً، لماذا أعدّ مكتب «لاليف» الدراسة؟ سنة 2020، مثّل رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المُكلفين، المحامي كريم ضاهر، لبنان في لجنة «تنسيق المعايير الدولية الجديدة المُتعلقة بالشفافية الضريبية» التابعة للأمم المتحدة، ما أتاح له التنبّه إلى وجود «مطبّ قانوني» عالمي يسمح للدول التي باشرت بإجراءات مكافحة الفساد حجز ومصادرة الأموال، حتى لو كانت تابعة لدولة أخرى، إذا لم تُطالب الأخيرة بحقوقها. في لبنان، ومنذ ما بعد انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، تسعى مجموعات غير سياسية إلى مراسلة المعنيين في سويسرا وغيرها من البلدان، طلباً لاستعادة أموال السياسيين والمصرفيين المحوّلة إلى الخارج بعد حصول الانهيار، من دون أي تجاوب معها. ثمّ، «بجّت» في وجه سلامة في سويسرا وباريس وبريطانيا، والحجز على أموال له في سويسرا، ما شكّل دافعاً إضافياً لضاهر للتمعّن في القوانين السويسرية والأخذ بعين الاعتبار هذا «التفصيل».

يبقى الحجر الأساس عزل سلامة من منصبه تمهيداً لمحاكمته


حصل التواصل مع مكتب «لاليف» للمحاماة، فأعدّ دراسة من 32 صفحة، موضحاً فيها الإطار العام للقانون السويسري، بأنّ باستطاعة الدول أن تطلب من السلطات السويسرية اتخاذ تدابير مؤقتة، كتجميد الأصول، حتى قبل أن تنتهي الدولة المعنية من تحقيقاتها، على أن تتأكّد من توافر ثلاثة شروط:
ــــ لا يُمكن تجميد الأصول في سويسرا إذا كان قد مرّ ما بين 7 و15 سنة، حسب الجُرم، ووفقاً لقانون التقادم.
ــــ لا يجوز نقل الأصول المُجمّدة إلى البلد المعني، إلا إذا جُمّدت قبل انقضاء المدّة المُحدّدة للإجراءات الجنائية بموجب القانون السويسري.
ــــ لا يُنفّذ حكم مصادرة الأصول إذا كانت الجريمة الجنائية ــــ وقت صدور الحُكم في بلد الأصل ــــ قد سقطت بفعل مرور الزمن بموجب القانون السويسري.
وفي حال عدم توافر الشروط الثلاثة، يسمح القانون السويسري «بتقاسم» الأصول المصادرة بين سويسرا والدولة الأساس، «أما الأصول الناشئة عن رشوة موظفين عامين أو سلوك غير لائق، فإنّ الأصول تُعاد بشكل كامل للدولة المُتعرّضة للخسارة». ولكنّ النصّ القانوني وجد «مخرجاً» للدول التي لا تنجح بينها وبين سويسرا إجراءات تبادل المساعدة القانونية. ففي حال كانت الدولة المعنية تُعاني من «الانهيار الكلّي، أو ضعف نظامها القضائي (...) أو إذا كانت مصالح سويسرا نفسها تستدعي تجميد الأصول»، يتّخذ المجلس الفيدرالي السويسري طلب تجميد الأصول. في ما خصّ لبنان، «فقد اعتبرت الحكومة السويسرية أنّ شروط الحجز غير متوافرة»، وفق الدراسة.
لذلك وبالاستناد إلى القوانين السويسرية، نصح مكتب «لاليف» لبنان باعتماد الخيارات الآتية:
ــــ طلب المساعدة القانونية المتبادلة مع سويسرا لدعم الإجراءات الجنائية اللبنانية
ــــ دخول الدولة اللبنانية كمدّعٍ في القضية ضدّ سلامة في سويسرا. مشاركة لبنان في هذا المسار القانوني ستسمح له بالاطلاع على وثائق يُمكن استخدامها في تحقيقات أخرى، ولكن يُمكن للنيابة العامة السويسرية حجب معلومات عن لبنان «إذا كانت هناك إجراءات موازية للمساعدة القانونية المتبادلة».
ــــ بدء حوار مع قسم استرداد الأصول في وزارة الخارجية السويسرية، لمساعدة لبنان في استرداد الأصول التي استولى عليها مكتب المدعي العام السويسري في الإجراءات المُتخذة بحق رياض سلامة. قيمة الأصول المضبوطة حالياً تبلغ 50 مليون دولار أميركي.
ــــ بدء مناقشات أولية وغير رسمية مع الحكومة السويسرية بشأن موقفها من فرض عقوبات ضدّ سياسيين وتجميد أصولهم في سويسرا.
ــــ طلب استعادة الأصول المرتبطة بالتُّهم التي سيتمّ التحقيق فيها مستقبلاً.
ــــ طلب مصادرة الأصول وإعادتها تنفيذاً لحكم جنائي لبناني، بما في ذلك الأصول التي لا تتعلق مباشرة بالقضايا المفتوحة.
ــــ طلب إعادة الأموال العامة المصادرة المختلسة من لبنان.
تُشير الدراسة إلى أنّ اعتماد لبنان على قوانين «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة عبر الوطنية» أكثر فائدة له من طلب تقاسم الأصول المصادرة مع سويسرا، وبعض الشروط «تتطلّب انطلاق إجراءات جنائية في لبنان وصدور قرار نهائي بها». وتجنّباً للإجراءات القضائية التقليدية التي تأخذ وقتاً طويلاً، وجدت الدراسة آليات أخرى تُتيح للبنان في حال إعداده دراسة مُفصّلة النجاح في الحجز على الأصول اللبنانية في سويسرا، قبل أن تضع الأخيرة يدها عليها. نقطة الانطلاق لكلّ هذه الإجراءات، هي في اتخاذ القرار اللبناني بالتواصل مع سويسرا حفاظاً على حقوقه، وحتى لا يُفهم سكوته تنازلاً منه عن هذه الأموال لسويسرا.

قيمة أصول سلامة المضبوطة في سويسرا تبلغ 50 مليون دولار أميركي


يُفترض أن تُشكّل الدراسة «حافزاً» أمام السلطتين السياسية والقضائية اللبنانية للعمل التنفيذي من أجل استعادة الأموال المُحوّلة إلى الخارج بعد 17 تشرين، والحصول على أدلّة جديدة في ارتكابات رياض سلامة والاتهامات بحقه عن استغلال وظيفي وتبييض واختلاس أموال تُفيد التحقيق الذي تُجريه النيابة العامة التمييزية اللبنانية، وتُتيح التوسّع بالتحقيق ليشمل أصحاب المصارف والمديرين العامين وكلّ الأشخاص النافذين. بـ«كبسة زرّ» تستطيع السلطات المعنية في لبنان معرفة هويات المعرضين سياسياً، والنافذين، وأصحاب المصارف، الذين حصلوا بحكم مواقعهم على معلومات خاصة غير متاحة للعامة ساعدتهم على «الهروب» بأموالهم، أو يُطبّق عليهم جرم الإثراء غير المشروع، لإعداد تقرير مُفصّل يُقدّم إلى سويسرا، وتُطلب مساعدتها. يبقى الحجر الأساس في كلّ ذلك، عزل سلامة من منصبه تمهيداً لمحاكمته، وإبعاده عن هيئة التحقيق الخاصة لتتمكن من ممارسة دورها بشكل طبيعي. لا يملك لبنان ترف الوقت في التصرّف، فقد مرّ عامان منذ حصول الانهيار، وبعد سنوات مُعيّنة يسقط حقّه في استعادة تلك الأموال.



الإجراءات السويسرية
الإجراءات المُتخذة بخصوص أصول السياسيين اللبنانيين في سويسرا، منذ سنة 2020 حتى تاريخه، هي بحسب الدراسة التي أعدّها مكتب «لاليف» للمحاماة:
ــــ آذار 2020: النائب فابيان مولينا قدّم سؤالاً إلى الحكومة السويسرية حول أموال الحكام اللبنانيين المودعة في البنوك السويسرية بين 17 تشرين الأول 2019 و14 كانون الثاني 2020. ردّت الحكومة السويسرية في أيار 2020 أنّ على لبنان تقديم «أدلّة ملموسة» حول تلك الأصول.
ــــ 24 شباط 2020: طلبت الجمعية اللبنانية السويسرية، إلى جانب جهات أخرى، من الحكومة السويسرية تجميد الحسابات المصرفية السويسرية للسياسيين اللبنانيين للاشتباه في ارتكابهم الفساد في لبنان. ردّت الحكومة السويسرية بتاريخ 12 آذار 2020، رافضةً الطلب
ــــ نيسان 2021: أعلنت مؤسسة «Accountability Now» تقديم شكوى جنائية أمام مكتب المدعي العام السويسري ضد المصارف السويسرية التي يُزعم أنها متورطة في قضية رياض سلامة والمشاركة في غسل الأموال والفساد.