أتابع الإعلام الإسرائيلي منذ تسعينيّات القرن الماضي. كنّا نحصل على صحف العدوّ من خلال بريد خاص في قبرص. صديق لديه اشتراك في صحف «إسرائيل» يرسلها مع صديق يعمل في شركة طيران الشرق الأوسط، وينتظرها زميل تعلّم العبريّة عن بُعد. قبل أن يصل إلى بيروت مترجمون عاشوا في السجون الإسرائيلية، ثم انطلق عالم الإنترنت في بلادنا، وكانت «إسرائيل» سبّاقة، ما أفادنا في الحصول على كلّ دوريّاتها، سواء الصحافية أو نشرات دراسية أو خلافه. ولطالما تميّز الكثير من الصحافيّين والكتّاب في «إسرائيل» بمعرفة واسعة، والأهم، بدرجة عالية من الاستقلالية، برغم مقصّ الرقابة العسكريّة الصارم. وكان الأفضل في تلك الفئة من الإعلاميين الإسرائيليين، عدم الانجرار الى البروباغندا الرديئة، حتى لو اقتضت المصلحة العليا لبلادهم ذلك.مفاجأة أمس، ليست سوى إشارة إضافية الى تدهور يحصل في «إسرائيل» على مستويات كثيرة، من بينها الصحافة نفسها. لا أعرف كيف قبلت إدارة التحرير في صحيفة «يديعوت أحرونوت» تلقّي هذه الإهانة المهنية ووافقت على إنتاج مادة كان يمكن لطالب في كلية الإعلام أن يعدّ ما هو أفضل منها لو طلب منه أستاذه إعداد بحث موجز عن شخصية عدو إسرائيل الأبرز، أي السيّد حسن نصر الله.
على مدى أيام، روّجت الدعاية الإسرائيلية لحدث صحافي سينشر يوم الجمعة (أمس) ويتعلّق بكشف شعبة «أمان» (الاستخبارات العسكرية في جيش العدوّ) معلومات مصنّفة تتعلق بالسيّد نصر الله. وتم أمس نشر التقرير المفصّل تحت عنوان «الملفّ السرّي لنصر الله، في أمان». ومع أن الموجز الذي سرّب في الأيام الماضية لم يكن يحمل عناوين مغرية، إلا أن الصدمة كانت في التقرير نفسه الذي كان من الأفضل نشره في موقع «ديبكا» وبقلم رئيس تحريره المشهور بنقص صدقيّته، غيورا شاميس، وليس عبر كاتبين مخضرمين وبارزين مثل يوسي يهوشع ورؤوفين فايس.
من المفيد الإشارة أولاً، إلى أن التقرير يستند إلى مقابلات مع عاملين في «أمان»، وهي أكبر الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية وأكثرها كلفةً من حيث الموازنة. ويتركّز نشاطها حول جمع وتحليل المعلومات العسكرية من خلال المصادر المختلفة، وتتولّى مهمة تشخيص الإنذار المبكر ضد الحرب والأنشطة العسكرية المعادية بشكل عام. إضافة إلى أنها مكلّفة بإعداد التقدير الاستخباري الاستراتيجي لوضعه أمام صانعي القرار في «إسرائيل». ولذلك يجري وصف «أمان» بأنه جهاز «التقدير القومي» لدى العدوّ، ولأوراقه دور بارز في صياغة سياسات تل أبيب تجاه الأطراف المعادية. ويشكّل قسم الأبحاث (الذي ينتمي إليه الضبّاط الذين أجروا المقابلة) نواة «أمان»، بوصفه الجهة التي تتجمّع فيها كلّ المواد الاستخبارية الواردة ليقوم بمعالجتها وتحليلها واستخلاص التقديرات اللازمة منها. ومن بين هؤلاء، عناصر من متخرّجي برنامج «حبتسالوت»، وهو البرنامج العَلَم لسلاح الاستخبارات الذي يجمع بين الخدمة الدائمة ودراسات العلوم السياسية وعلوم الشرق الأوسط، بالاندماج مع الأقسام التحليلية الآتية: علوم الكومبيوتر، الرياضيات، الاقتصاد والسياسة. ويتطوّع لاختبار برنامج «حبتسالوت» (تعني بالعربية زهرة الزنبق أو النرجس، سبق أن ذكرت في التوراة وطبعت على عملة الشيكل) نحو 50 متدرباً ومتدربة سنوياً، يتمّ العمل على تأهيلهم لدور ضباط الاستخبارات الرائدين الذين يتعاملون مع القضايا المركزية على جدول الأعمال الوطني والعسكري.
كان من الأفضل نشر التقرير نفسه في موقع «ديبكا» وبقلم رئيس تحريره المشهور بنقص صدقيّته، غيورا شاميس


حقيقةً، يحتار المرء في تقييم الصحافيين الذين نشروا التقرير للذين قدّموا لهم المعلومات. كان عليهم التدقيق فعلياً عمّا إذا كانوا أمام محلّلين وضبّاط جهاز محترف، أم أمام مجموعة هواة يحترفون الرصد الإعلامي. وبداهةً، كما يحلو لهم القول تكراراً، كان على الصحافيين إدراك أن «إسرائيل» في قلب معركة محتدمة وقاسية جداً. وفي هذه الحالة، لا تخسر الاستخبارات معلومات ذات قيمة من دون ضمان نتائج توازي أهمية المعلومة. وهذا ما ظهر في مضمون التقرير الذين يمكن الجزم بأنه «يخلو من أي معلومة ذات طابع استخباري»... لم تقدم لكم «أمان» أي معلومة ذات قيمة استخبارية، وهو أمر بالمناسبة يمكن فهمه لمن يعيش في قلب صراع بهذا الحجم. وحتى لا يتكرر الاستخفاف بكم مرة جديدة، سأروي لكم ماذا يجري من صوبنا نحن. هل تعتقدون مثلاً أن أجهزة الأمن السياسية والعسكرية التابعة للمقاومة، يمكنها أن تتسلّى بما يؤذي احترافيّتها عبر ضخّ معلومات ساذجة وسخيفة في الإعلام بقصد التبجّح؟ كان يفترض بصحافيّي العدوّ المحترفين ألّا يقعوا في هذا الفخ، وأن تتصرّفوا ــــ وإن كان هذا الكلام لا يُسعدكم ــــ بمنطق التماثل. وأنا أفيدكم هنا، بأنه لا يجدر بكم تخيّل أن حزب الله مستعدّ لمنحنا مقابلة مع متخصّصين في رصد قيادات العدو الاستراتيجيين، وتوفير تحليلهم ومعطياتهم لنا... أبداً هذا لن يحصل!
لكن، لنعد قليلاً إلى يوم قبل نشر التقرير، حين جرى حوار في القناة 12 الإسرائيلية حول التقرير. وفيه يسأل المحاور عن الهدف من التقرير، فيأتي الجواب مباشرة ومن دون تحضير على لسان يعقوب أخيمئير، وهو صحافي مخضرم ومقدم برامج سابق في قناة «كان»: التبجّح، التبجّح...
يحاول آفي بنياهو، وهو ناطق باسم الجيش الإسرائيلي سابقاً كبحَه بالردّ: كلا. لكن أخيمئير يكمل حديثه: كل أسبوع هناك مسرح، يقول لنا نجحت ونجحنا وفتحنا ملف نصر الله، كفى، حقاً كفى!
لكن بنياهو يحاول رتق الموقف: من الممكن أننا نريد أن نريه إلى أيّ مدى هو مكشوف، ومن الممكن أن هناك أموراً أخرى مكشوفة، كي يعلم بألّا يتعاطى معنا. كل ذلك عمل استخباري، تخفيض التصنيف الأمني لمعلومات استخبارية من أجل احتياجات عملانية، أفترض أنه يوجد هنا اعتبار من هذا النوع، لم يقم أيّ أحد بأيّ أمر سياسي إن قام طاقم من عناصر الخدمة النظامية في وحدة الأبحاث في أمان..
ومع ذلك يعود أخيمئير ليصدم الحضور: أكره هذا التبجّح كثيراً، بالتأكيد الأسبوع المقبل أيضاً سيكون هناك «انتصرنا» مرة أخرى...
الأمر هنا ليس سباقاً بين من يسجّل النقاط على الآخر. المسألة هنا في التواطؤ السيئ بين الصحافة وأركان المؤسسة العسكرية والأمنية في «إسرائيل» لمواجهة «عجز ما» أو حتى «عقدة نفسية». وهو عجز يتّصل بعدم قدرة العدوّ، ليس على عدم تحمّل تعاظم قوة المقاومة العسكرية وحسب، بل أيضاً على عدم تحمّل الموقع المتقدّم جداً الذي يحتلّه نصر الله في الوعي عند الجمهور الإسرائيلي، وليس حصراً عند أهل القرار في «إسرائيل». ويبدو أن حجم الأضرار والخشية لدى الجمهور الإسرائيلي، هو ما دفع بالقيادة العليا للجوء إلى الاستخبارات العسكرية، من أجل الترويج لبعض المفردات حول شخص السيد نصر الله، وإنْ مع إقرار لا بدّ منه، بصدقيّته وجدّية تهديداته وقدرته على تنفيذها، وتحديداً ما يتّصل باستهداف العمق الإسرائيلي.
ماذا يريدون أن يقولوا لنا؟ هل هي رغبة في ادّعاء المعرفة لدى الاستخبارات العسكرية، الى حدّ الزعم بأنه لم يبق شيء لا تعرفه «إسرائيل»، حتى لو كان في خانة النيّات المبيّتة، ومن دون أن يسأل من يفترض أنه يجري مقابلة: كيف لإسرائيل ألّا تُجهز على قيادة حزب الله دفعة واحدة ومن دون بصمة، طالما هي قادرة على معرفة النيّات في الصدور، وليس حصراً أماكن وجود قادة حزب الله وتدابيرهم...
ماذا يعني أن تخرج المقابلة مع 15 ضابطاً ومتخصّصاً وباحثاً ــــ يعملون ليل نهار لجمع المعلومات عن نصر الله وتحليلها ــــ بهذه المعطيات التي لا تزيد عمّا هو موجود في الإعلام العربي عن حزب الله وأمينه العام وعن عائلته وما يرتبط به، صحيحة كانت أو مختلقة أو محوّرة، وجرى عرضها للجمهور الإسرائيلي في سياقات محدّدة وموجّهة، للإيحاء بالقدرة على تحصيل المعرفة والربط بين الأمور، ومن بينها مقابلة نصر الله مع «الأخبار» عام 2014.
«أمان» تعرف الكثير، غير ما أعطته للصحافيين الإسرائيليين. وحتى لا تخرجوا من المولد بلا حمّص، سأفيدكم بالآتي:
نصر الله لا يعيش تحت الأرض، وهو يسافر خارج لبنان، ويتنقّل بين المدن والقرى وفي الشوارع والأحياء. ولديه فرق متخصّصة في كلّ شيء، وجدول أعمال فيه من جو بايدن إلى مختار ميس الجبل ورئيس المجلس المحلّي في مستوطنة شلومي.. وبالمناسبة، يداه تلامسان الأشجار دوماً!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا