منذ أشهر، يجري الحديث عن نفاد احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية، ما يستوجب إلغاء الدعم عن السلع الأساسية (الأدوية والمحروقات والخبز... وجزئياً المواد الغذائية). حكومة حسان دياب وجدت الحلّ لهذه الأزمة باقتراح إقرار بطاقة تمويلية، يجري العمل بها بالتزامن مع إلغاء الدعم، على أن توزّع لعدد من الأسر (وصل هذا العدد أخيراً الى 600 ألف أسرة) لكل منها مليون و300 ألف ليرة شهرياً، تستخدمها العائلات لشراء حاجياتها.لكن التدقيق يكشف أن اقتراح البطاقة الذي وُضع على طاولة البحث مجدداً يوم الثلاثاء الماضي، ليس سوى بيع المزيد من الأوهام للناس، فيما الحقيقة أن المشروع يكاد يكون غير قابل للتنفيذ، وقد انفجر بمعدّيه قبل الوصول الى مسوّدة موحدة للأفكار التي سُجّلت كسيناريو. هذا المشروع يكاد يُدفن في اللجنة الوزارية قبل وصوله الى البرلمان كمشروع قانون لمناقشته. وما حصل فعلياً أن السيناريو المُعدّ من الحكومة لاقى تحفظاً من وزراء الصناعة والزراعة والمال، وبشكل جزئي من وزير الاقتصاد، فانتهى الاجتماع بورقة تتضمن أفكاراً، سيعمد كل وزير إلى تنقيحها على حدة ليُعقد اجتماع آخر، الأسبوع المقبل، تناقش خلاله التنقيحات.
الأهم من مضمون المشروع هو سبل تغطية مصاريفه المالية، وهي مهمة مناطة بالسلطة التنفيذية. إلا أن حكومة دياب التي تتذرع بتصريف الأعمال للهروب من المسؤولية، عمدت الى صرف النظر عن هذا «التفصيل»، عبر ترك هذه المسألة لمجلس النواب حتى يقررها بنفسه. وهنا، السيناريو معروف مسبقاً. فرئيس مجلس النواب نبيه بري رفض طروحات الحكومة الأربعة المرسلة إليه حول بطاقة الدعم، وطلب إرسال طرح واحد حتى يتم درسه في البرلمان. ومن المرجح أن يعيد مشروع البطاقة ــــ إن وصل ــــ إلى معدّيه لعدم وضوح كيفية تمويلها، ولا سيما أن هذا السيناريو يحتاج الى نحو 9 آلاف مليار ليرة سنوياَ حتى يتم تغطيته. وعلى افتراض أنه تم اقتطاع نحو 300 مليون دولار (246 مليون دولار من البنك الدولي و50 مليوناً من الاتحاد الأوروبي) من هذا المبلغ الإجمالي على أساس سعر صرف يوازي 6240 ليرة للدولار، فإن المبلغ المتبقي على الدولة لتغطيته يقارب 7 آلاف مليار و560 مليار ليرة. من سيؤمن الاعتمادات لذلك؟ سبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن أبلغ الحكومة رفضه لتحمل هذه المسؤولية، ويقول خبراء اقتصاديون إن أي طبع لمزيد من العملة من شأنه أن يزيد التضخم الى معدلات مرتفعة جدّاً، ما سينعكس ارتفاعاً في سعر الصرف كما أسعار السلع الغذائية المستوردة وغير المستوردة. وسيفتح بازار التلاعب بالأسعار على مصراعيه.
من جهتها، توضح مصادر حكومية أن البطاقة لن ترى النور، والحديث بها يتم على سبيل إعطاء المزيد من المسكنات للفقراء لمنع الانفجار في عهد هذه الحكومة، الى حين تأليف حكومة جديدة لتتحمل المسؤولية. فحكومة دياب تخلت عن دورها تجاه المواطنين منذ اليوم الأول واستسلمت لقوى الأمر الواقع الذين أحبطوا خطتها للتعافي المالي، ثم جلست تتفرج على الانهيار وتضاعف وطأته بعدم تحركها للجم جشع التجار أو مافيا الصرّافين. واليوم، ترمي تمويل بطاقة «وهمية» على مجلس النواب لعلمها المسبق، بحسب المصدر، بأن اقتطاع هذا المبلغ من قيمة الموازنة العامة المقدّرة بـ 18 ألف مليار ليرة، سيزيد العجز ويدفع الى فرض المزيد من الضرائب والرسوم، رغم أن الموازنة لا تتضمن أي إشارة لضرائب جديدة. وإما سيكون على لبنان الاستدانة، في حين أن هذا المنفذ مغلق بأمر دولي ولن يساهم سوى بترتيب المزيد من الأعباء. ثمة مشكلة أخرى تتعلق بقرض البنك الدولي الذي تبلغ قيمته 264 مليون دولار والذي سيعمد المصرف الى شرائه بقيمة 6240 ليرة للدولار من دون أي تصوّر للجهة التي ستتحمل فارق الخسارة عند تسديد القرض. وبحسب المصدر، يتم التعامل مع القرض «على الطريقة اللبنانية، أي من ناحية أننا سنعالج هذا الوضع عندما نصل إليه بعد 15 عاماً أو أكثر. يفترض الآن تدبير الأحوال كيفما كان». لكن في مطلق الأحوال، «ثمة استحالة لإبصار البطاقة النور لأن مجلس النواب لن يأخذ على عاتقه تمويل اعتمادات للحكومة عبر إفقار الناس». وإذا ما وافق المجلس افتراضاً على تنفيذها، فإن دخول المشروع حيّز التنفيذ بعد الموافقة عليه يتطلب 4 أشهر من دون احتساب وقت صدور المشروع الموحّد من الحكومة لإرساله الى البرلمان والأخذ والرد الذي سيليه!
يشير مصدر حكومي إلى استحالة إقرار بطاقة الدعم والحديث بها هو نوع من المسكّنات لتأخير الانفجار الشعبي


باختصار، البطاقة التمويلية حتى الساعة لا تتعدى كونها شراء سمك في البحر. فألغامها منها وفيها، كما تفتقر الى الحدّ الأدنى من الدراسات العلمية، لا الطروحات العشوائية من بعض الوزراء الذين يرمون السيناريو تلو الآخر من دون إيلاء أي اعتبار للوقائع الاقتصادية والنقدية والاجتماعية المزرية. فمنذ استقالة الحكومة، يجتمع هؤلاء قسراً بغياب وزيرين أو أكثر بسبب خلافهم مع رئيس الحكومة منذ طرحهم استقالاتهم قبل التنسيق معه. السرايا باتت بمثابة غرفة انتظار لتأليف حكومة جديدة. المشكلة هنا أن الانتظار ربما سيطول. والبحث عن سبل تمويل داخلي للبطاقة دونه عقبات كثيرة. يجمع الاقتصاديون الذين تحدثت معهم «الأخبار» على أن إقرار بطاقة الدعم بشكلها العشوائي المعتمد حالياَ يعني الذهاب نحو فوضى إضافية وتضخم أكبر والمزيد من التدهور في سعر الليرة، بحيث يُتوقع أن يرتفع سعر الدولار الى مستويات قياسية فور الإعلان عن بدء إلغاء الدعم عن البنزين والمازوت والدواء والقمح والطحين، رغم أنه سيكون بشكل تدريجي. عندها سيرتفع سعر صفيحة البنزين الى أربعة أضعاف، كذلك الأمر بالنسبة إلى سعر الدواء، فيما زيادة الدعم وفق سيناريو الحكومة على القمح سيبقي ثمن ربطة الخبز ضمن سقف الـ 3500 ليرة لبنانية، والإبقاء على دعم الفيول كما كان، سيجنب المواطنين أي ارتفاع في فاتورة الكهرباء. فالبطاقة ليست سوى «قنبلة موقوتة ستقود الى انفجار اجتماعي كبير كونها لن تعوّض إلا 10 أو 15% من قيمة الخسائر التي أصابت القدرة الشرائية لدى الأفراد»، بحسب خبير اقتصادي.

المدير العام لـ«الشؤون»: لا علم لي بالـ 600 ألف أسرة!
عند موافقة البنك الدولي على منح لبنان قرضاً بقيمة 264 مليون دولار لمساعدة الأسر الأكثر فقراً، كان رقم الأسر المستهدفة يتمحور حول 160 ألف أسرة. ارتفع الرقم مع وصول 50 مليون دولار إضافية من الاتحاد الأوروبي سيستفيد منها اللبنانيون واللاجئون على حدّ سواء. لذلك قُدّر العدد النهائي بنحو 240 ألف أسرة. وكان المشروع الرئيسي أن تحصل كل أسرة على 100 دولار شهرياً. لكن قرار الحكومة بدفع قيمة المساعدات بالليرة اللبنانية لرفد مصرف لبنان بالعملة الأجنبية ودعم الاقتصاد على ما أعلن عنه سيخفض قيمة المساعدة الشهرية، ما استدعى تخفيض عدد الأسر المستفيدة من قرض البنك الدولي الى نحو 170 ألف أسرة. ليست تلك المشكلة الرئيسية، إذ خلال اجتماع اللجنة الحكومية، جرى الحديث عن 600 ألف أسرة كرقم نهائي. الجهة المكلفة بإعداد لائحة الأسر والتي تنسق مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، لا علم لها بهذا العدد. إذ يشير المدير العام لوزارة الشؤون الاجتماعية، عبد الله أحمد، إلى أنه لم يطّلع على أي ورقة بهذا الخصوص وفاجأه رقم الأسر المتداول والمبلغ المقترح في الوقت عينه. ويضيف إن عمله اليوم «بالتعاون مع البنك الدولي يتمحور حول بناء قاعدة بيانات أساسية لنحو 200 ألف أسرة، وكل كلام خارج إطار 200 أو 220 ألف أسرة هو كلام يجب أن يكون مسؤولاً ومبنياً على علم». من هذا المنطلق، تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية بتنفيذ زيارات منزلية لكل الأسر التي ملأت استمارة بعد فتح الوزارة للمنصة الخاصة بتسجيل الأسر الأكثر فقراً (بلغ عدد الاستمارات حتى الساعة 370 ألفاً)، ثم تجري مقاطعة المعلومات مع الجهات المعنية من وزارة الداخلية الى مصلحة السير الى المالية والضمان، والنقابات في بعض الأحيان لأن المساعدات ليست نقدية حصراً، بل تتضمن أيضاً دعماً للأطفال (بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم العالي)، وتأمين رعاية صحية أولية واستشفاء ودعم اجتماعي يشمل الأطفال والعجزة وذوي الاحتياجات الخاصة. تنفيذ هذا العمل بدقة ومن دون لغم اللوائح يحتاج الى 3 أشهر. فوفقاً لتجربة سابقة تولّتها وزارة الداخلية بالتنسيق مع رؤساء البلديات والمخاتير، عندما فتحت منصة لدرس الطلبات المستحقة، جرى تقديم 476 ألف طلب، تبيّن أنها تتضمن أسماء ملغومة قوامها المحسوبيات لامست نصف العدد.
وقد واجه الجيش اللبناني الذي كُلّف بتوزيع 400 ألف ليرة شهرياً لكل أسرة، صعوبات بعد وقوعه على أسماء متوفين وأسر أوضاعها ميسورة. وتشير مصادر مطلعة إلى أن الدولة ليست بحاجة إلى الاستدانة أو لقرض البنك الدولي إن بنت قاعدة بيانات «نظيفة وشفافة لأن الكثير من الهبات متوفرة، لكن الجهات المانحة لا تفرج عنها خوفاً من استخدامها في غير محلها. ولهذا الأمر بالذات يجري اليوم تنقيح معلومات حول 200 ألف أسرة حتى يفرج عن أموال قرض البنك الدولي». أما اختيار العائلات، فيعتمد على زيارات منزلية للمسجلين على المنصة وتعبئة استمارات ومقاطعة المعلومات مع مختلف الإدارات. ففي السابق، من كان ضمن خانة الفقر المدقع يقيّم بدخل يوازي ما دون 5.7$ يومياً، لكنه لم يعد أمراً دقيقاً. لذلك تطبق معادلة وفق مجموعة من الأسئلة لوضع علامة لكل أسرة. ويتم اختيار الأسر ذات العلامات الأدنى الى حين الوصول الى 200 ألف أسرة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا