أينما حلّ الاحتكار الرأسمالي، تظهر شخصيات شبيهة بـ«مستر بيرنز» (الرجل الثريّ والشرّير في المسلسل التلفزيوني The Simpsons). صاحب محطة للطاقة النووية، جشعٌ، يستخدم ثروته ونفوذه لتحقيق أهدافه، من دون الاكتراث لأيّ عقوبات قد تُفرض عليه. القصّة ليست فقط في انتمائه إلى طبقة تُسيطر على الاقتصاد، وتُسهم في تعميق معاناة الطبقات الأخرى، وتحديداً القوى العاملة، بل أيضاً بسبب اصطفاف «السلطة» السياسية والنقدية إلى جانبه، وتأمينها الغطاء اللازم لحماية مصالحه. يتجسّد «مستر بيرنز» لبنانياً بهيئات عدّة، «كارتيل النفط» وكلّ ما يتفرّع عنه، واحدة منها. هؤلاء لا قيمة لديهم سوى لكميات الدولارات المُكدسة في حساباتهم الخاصة.في اليومين الماضيين، عادت الشركات المستوردة للنفط وموزعو المحروقات وأصحاب محطات الوقود، إلى ممارسة اللعبة التي يمتهنونها: إذلال المواطنين. لا يوجد كلمة أخفّ وطأة لوصف الطوابير على محطات الوقود، و«ترجّي» الناس لملء سياراتهم بالمادة الحيوية التي تعوّض غياب النقل العام. مناورة بالذخيرة الحيّة، نفذّها «كارتيل النفط» يومَي الخميس والجمعة، واضعاً الفئات الشعبية بمواجهة بعضها البعض، ورافعاً من حدّة الاحتقان والضغط الاجتماعي، في سبيل الحفاظ على مُكتسبات عالية اعتاد تحصيلها، منذ أن بدأت مسيرة احتكاره لسوق المشتقات النفطية. هم ليسوا مُجرّد أسماء شركات استيراد لقطاع خاص، بل واجهات لأحزاب وعائلات إقطاعية. يُعرف من بينهم، أكثر من غيره، النائب السابق وليد جنبلاط، لامتلاكه حصصاً علنية في شركات النفط. حين وجدوا أنّ «امتيازاتهم» في خطر، قرّروا «ليّ ذراع» الحكومة، من خلال أخذ المواطنين رهينة. نقلت الشركات المستوردة وموزعو المحروقات الأزمة من عندهم، إلى أصحاب المحطات، الذين أعلنوا تنفيذ إضراب مفتوح ابتداءً من صباح الخميس. نجحوا في تسعير الأزمة، لتنطلق بعدها الاتصالات والاجتماعات المفتوحة.
بلغ الاختناق أمس مستوى مرتفعاً. شعبياً، سُجّلت مواجهات داخل محطات مع مواطنين يريدون الحصول على البنزين. علقت سيارات عدّة على الطرقات بسبب انقطاعها من هذه المادة. اعتصامات لأصحاب سيارات الأجرة، وإغلاق معظم الطرق اعتراضاً على إقفال محطات الوقود... «لتنفرج» مساءً ببدء انفراط عقد الإضراب، مع تعليقه من قبل محطات «الأمانة» (المحسوبة على حزب الله) و«الأيتام» (مؤسسات السيّد محمد حسين فضل الله). واستُكملت السلسلة حين أعلنت «ميدكو» و«فينيسيا» (لصاحبهما مارون الشماس، أحد مستوردي المشتقات النفطية) فتح أبوابهما. قرار الأخير يُمثّل دليلاً على أنّ من اتخذ قرار الإضراب كان الشركات المستوردة وليس محطات الوقود، المملوكة بنسبة منها من قبل أكبر شركات الاستيراد. ويؤكد ذلك، ما قاله نقيب أصحاب المحطات سامي البراكس في اتصال مع «الأخبار» بأنّه ذهب أمس «من قِبلنا نقيب أصحاب الشركات المستوردة للنفط جورج فياض، واجتمع مع الوزيرة ندى بستاني، التي قالت إنّها تملك حلّاً يُقسّم كلفة الخسارة على الجميع. ونحن نظراً إلى الظروف التي تمرّ بها البلاد، وردّة الفعل الشعبية على الإضراب، قرّرنا الموافقة»، علماً بأنّ ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا (المحسوب سياسياً على جنبلاط)، الذي تنقّل أمس من شاشة تلفزيونية إلى أخرى طالباً من اللبنانيين «التفاؤل بالخير»، ردّ على سؤال «الأخبار» عن «المكاسب» التي حصلت عليها المحطات حتى تُعلّق الإضراب، بأنّه «لم نُحقّق شيئاً. كلّو مسخرة بمسخرة». إذاً أنتم غير موافقين على تعليق الإضراب؟ «ما تواخذينا ما بدنا نحكي أكتر الليلة. ماشي الحال». وبحسب معلومات «الأخبار»، أبلغت بستاني، الرئيس ميشال عون، قبل اجتماع بعبدا المالي أمس، أنّه لا يوجد أمامنا سوى حلّين. الأول، «تراجع مصرف لبنان عن تعميمه إيداع الشركات المستوردة 15% من قيمة الشحنات بالدولار». أما الحلّ الثاني، فـ«تقسيم الأكلاف الإضافية بين الشركات المستوردة وموزعي المحروقات وأصحاب المحطات، منعاً لتحميل المواطن أي عبء».
انتهاء الإضراب لا يعني أنّ الصفحة طُويت. فلا شيء يضمن عدم تعرّض الناس للإذلال مرّة جديدة. عند كلّ حادثة مشابهة، يبدأ تقاذف المسؤوليات، فلا يخرج أحد على اللبنانيين يُصارحهم بأصل العلّة. الحكومة، التي يُفترض أن تواجه هذه الأزمات، تعيش في غيبوبة تامة. رئيس حكومة تصريف الأعمال، مشغول بالمناكفات السياسية ولعبة الشارع لتحصيل المكتسبات من خصومه/ شركائه. أما الممثل الآخر للدولة، مصرف لبنان، فأولوياته لا تزال تأمين الدولار لتسديد خدمة الدين العام، والدفاع عن نظام اقتصادي مُنهار، عوض القيام بخطوات تحمي الغالبية العظمى من السكان، وتؤمّن حاجاتهم. قبل أيام، سدّد حاكم «المركزي» رياض سلامة، من احتياطاته بالعملات الأجنبية، كامل قيمة سندات اليوروبوندز مع فوائدها، البالغة 1.58 مليار دولار. ولكن قبل قرابة الشهر، أصدر التعميم 530 الذي فرض على المستوردين إيداع قيمة الشحنات مسبقاً لدى المصارف بمعدل 85% من قيمتها بالليرة اللبنانية و15% من قيمتها بالدولار. عوض أن يكون التعميم «حلّاً» بين الدولة ومستوردي المشتقات النفطية، تحوّل إلى سبب للأزمة الحالية، مع رفض القطاع الخاص تكبّد الأكلاف، وبعدما تبيّن أنّ آلية التعميم غير قابلة للتطبيق. «المصيبة» أنّ مصرف لبنان لا يكتفي بوضع الضغوط النقدية على القطاع الخاص، بل قرّر أن يُسلّط هذا السيف فوق رأس الدولة أيضاً. فقد علمت «الأخبار» أنّ سلامة أبلغ وزارة الطاقة، يوم الخميس، أنّه سيُطبّق عليها نفس الشروط المفروضة على مستوردي المشتقات النفطية، بإجبارها على إيداع قيمة الشحنات بمعدل 85% من قيمتها بالليرة اللبنانية و15% من قيمتها بالدولار، «بعدما كانا قد اتفقا على أن تكون 100% بالليرة اللبنانية».
عرضت بستاني تقسيم الأكلاف الإضافية على «كارتيل النفط»

إذا ما أصرّ رياض سلامة على شرطه، فسيكون مُتهماً في عرقلة استيراد الدولة للبنزين، وافتعال أزمة الوقود.
سبب الأزمة الثاني، هو الشركات المستوردة للنفط وموزعو المحروقات، «المُهدّدون» بمنافسة الدولة لهم. يوم الاثنين المقبل، تُفضّ أسعار المناقصة العمومية لاستيراد مادة البنزين من قبل منشآت النفط. «هي المرّة الأولى التي تُمسّ فيها حصّة كارتيل النفط. صحيح أنّ منشآت النفط ستستورد 10% من حاجة السوق فقط، لكنّها مع ذلك خسارة للشركات الخاصة التي تتخبط بين بعضها البعض حول من سيتحمّل مسؤولية تراجع الأرباح. نقلت الشركات المشكلة إلى المحطات، لتُرمى بعدها على المواطن من خلال طلب تعديل جدول الأسعار، الأمر الذي لن نقوم به في الوزارة»، لذلك تعتقد مصادر «الطاقة» أنّ المناقصة هي واحد من أسباب الإضراب. وتُخبر أنّ هدف الشركات «كان منع دخول أي منافس محتمل إلى السوق، وخاصة أنّنا سنبيع المُستهلك بالليرة اللبنانية من دون تكبيده أكلافاً إضافية، فهدفنا ليس الربح. بالنتيجة، كلّ القطاع تضرّر، وكلّه يتظاهر اليوم ضدّ الوزارة».
في شباط الماضي، لُزّم تأجير خزانات النفط المملوكة من الحكومة، إلى شركة «روسنفط» الروسية، التي سيحقّ لها أن تبيع الكميات المخزنة للشركات التي تملك مصبّاً بحرياً، وللقطاع العام مباشرة. كانت تلك الضربة الأولى التي تلقاها «كارتيل النفط». الضربة الثانية، بدأت أمس مع قبول الشركات بتقسيم «جبنة الخسارة» في ما بينها، من دون أن تنجح في إلغاء المناقصة أو تعديل جدول الأسعار. أما بالنسبة إلى إلغاء إيداع قيمة الشحنات مسبقاً لدى المصارف بمعدل 15% من قيمتها بالدولار، فلم تظهر نتيجته بعد. يبقى أنّ هذه «المافيا» قوية جدّاً ومُتغلغلة في أعماق النظام. الآن بدأت المواجهة معها.