لم يمرّ وصول الدبلوماسيّ الفرنسيّ إلى بيروت بهدف إجراء لقاءات مع السلطة و«ممثّلين عن الحراك»، من دون تحرّك أمام السفارة الفرنسيّة في بيروت. حناجر المعتصمين عند مدخل السفارة على طريق الشام أمس، أطلقت الصرخة الأولى «حريّة... جورج عبدالله!». اسم المعتقل في السجون الفرنسيّة حضر في الهتافات والصور، وفي السبب الرئيسي للدعوة للاعتصام «رفضاً للتدخلات الأجنبيّة، وضدّ زيارة المبعوث الفرنسي بينما المطلوب الوحيد من الدولة الفرنسيّة هو الإفراج عن المناضل عبدلله المعتقل لديها منذ أكثر من 35 عاماً دون مسوّغ قانوني». قبيل موعد الاعتصام وصل، كما كان معلوماً، مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو على أن يبدأ لقاءاته اليوم، لكنّ المعتصمين أصرّوا على رفض حضوره قائلين «مش مرغوب ومش مرغوب، يجي كريستوف مش مرغوب». رفض تدخّل أي سفارة يأتي في سياق «رفض مساعدة أي طرف لانتفاضتنا التي تهدف إلى إسقاط نظام مرتهن للخارج»، أما الردّ على من سيجلسون مع المبعوث الفرنسي فهو «فليسافروا إلى فرنسا».صرخة الحاضرين أمام السفارة ندّدت بالتدخّلات الأجنبيّة، مذكّرة أن «شعبي انتفض شعبي ثار، شعبي رفض الاستعمار»، «يا فرنساوي شو الحجّة، جايي تركب عالموجة»، «يا فرنساوي شو جابك، ما بدنا ديون بلادك». الدين العام للدولة اللبنانية وتغذيته بالقروض الممنوحة أو الموعودة، نالت حيّزاً من شعارات المعتصمين واصفين إيّاها بـ«الفاشلة». عاد المعتصمون إلى المؤتمرات الدولية والتعهّدات الماليّة التي أقرّت فيها، ليقولوا «باريس 1 فاشل، باريس 2 فاشل، باريس 3 فاشل»، وصولاً إلى «من بعدو سيدر فاشل!». ومؤتمر سيدر الأخير (انعقد في نيسان 2018، في باريس) يرفضه المعتصمون على اعتبار أنه يعزّز التدخلات الخارجية في لبنان التي تشترط إقرار إصلاحات عديدة لتحقيق وعود المؤتمر، وهو ما يرفضه المعتصمون لأن «سيدر يؤدّي إلى مراكمة دين جديد على ديون لبنان، وزيادة العجز، بينما مطالبنا هي تغيير البنية الاقتصاديّة كلّها». رفض الذل في دولة المديونيّة، تعبّر عنه نضال بصرختها: «شبِعنا من الديون، الفرنسيّة تحديداً»، مضيفة «لا نريد نصائح من أحد، هدف انتفاضتنا الأول هو رفض التدخّلات الخارجيّة. لا نرفض أن يتفرّد أحد بالحديث باسم المنتفضين وحسب، بل نرفض أن يتحدّث أحد إلى أي دولة أجنبيّة».
بعد 27 يوماً على انتفاضة 17 أكتوبر، لم تكفّ الحناجر المبحوحة عن الهتاف «ثورة!»، على كل شيء تقريباً بما فيها السفارات: «على المصارف، على سيدر، على التدخّل، على الاستعمار، على السفارة، على السفير... ثورة». اللافتات طاولت أيضاً رئيس بلديّة بيروت جمال عيتاني، مطالبة سفارة فرنسا بـ«عدم منحه فيزا كي لا يهرب بأموال بلدية بيروت». ارتفعت القبضات لتكرّر الهتاف الشهير «ما خلِقنا لنعيش بذلّ، خلِقنا نعيش بحريّة»، مع استبدال الشطر الثاني من الهتاف بـ«وكلنا جورج عبدالله» أو «خلقنا نقتّل جواسيس». لم ينسَ المعتصمون العميل السجين في لبنان عامر الفاخوري، مستنكرين محاولة السلطة تبرئته وتناسيها المطالبة والضغط للإفراج عن المناضل عبدلله. من أمام بوابة السفارة الفرنسية، التي حرستها التعزيزات الأمنيّة الكثيفة أمس، عبَر المعتصمون إلى زمن الانتداب الفرنسي للبنان وإلى مواعيد البلاد العربيّة مع الاستعمار واتفاقيّاته فردّدوا «للفرنسي وشريكو، فلتسقط سايكس-بيكو»، رابطين أوجه الشبه والتحالف بين التدخّل الفرنسي الأخير والتدخّلات الأميركية.
«لا نرفض أن يتفرّد أحد بالحديث باسم المنتفضين وحسب، بل نرفض أن يتحدّث أحد إلى أي دولة أجنبيّة»


في 24 تشرين الأوّل الماضي، أتمّ المناضل جورج ابرهيم عبدلله عامه الـ35 في المعتقلات الفرنسيّة. قبل ذلك التاريخ، وتحديداً قبل يومين من انطلاقة الانتفاضة اللبنانية في 17 الشهر الماضي، كانت كارين هلال من «الحركة الشبابيّة للتغيير» برفقة اثنين من رفاقها يقومون بطلاء حائط السفارة الفرنسيّة باسم المعتقل عبدالله. يومها، اعتُقل الأعضاء الثلاثة في الحركة، التي عادت واقتحمت جمعيّة المصارف خلال الانتفاضة، وتشرح كارين «في هذا المكان نفسه، قمنا بتاريخ 15 أكتوبر بتزيين حائط السفارة الباهت باسم رفيقنا جورج، قاموا بمطاردتنا واعتقالنا، خضر ودانييل وأنا، وخضعنا للتحقيق لنحو ساعتين لكن السفارة لم تدّعِ علينا وأخلي سبيلنا».
الشعار الأكثر وقعاً وتهديداً كان «جورج ما تخلّينا عنّو، الخاطف منا منخطف منو!»... وهو ما ردّده المعتصمون بلا خوف مطلقين «الإنذار» الأخير بوجه سفارة تريد «المساعدة» في الشأن اللبناني بدلاً من إطلاق سراح عبدلله، وبوجه سلطة لا تحرّك ساكناً لرفض تدخّلات الخارج... أو لإخلاء سبيل مواطنيها المعتقلين لديه.