من يملكون ترف النقاش المفتوح، وجلّهم من النخب المنتفخة، وحدهم من لا يهتمون لاندلاع الفوضى في لبنان. ليس لأنهم قصيرو النظر حيال ما سيصيبهم من ضرر، شأنهم شأن بقية الناس. ولكن، فقط، لأنهم ليسوا على الطاولة. هؤلاء يتصرفون، في كل الاحتجاجات والانتفاضات والثورات، على أنهم الناطقون الدائمون باسمها، لكن ما يريدونه هو الوصول الى جنّة السلطة، لا أكثر ولا أقل.قد يكون هذا حقهم. كما هو حق القوى السياسية استغلال كل تطور سياسي أو شعبي لتحسين موقعها. لكن ما ليس من حق كل هؤلاء، محاولة جرّ الناس الى مواجهات وأهداف ليست هي جوهر ما يطالب به الخارجون الى الشوارع في معظم لبنان. ليس من حق هؤلاء، أفراداً أو مجموعات أو قوى سياسية، أخذ الشارع الى مطارح لا تطابق هواجسه الرئيسية المتمثلة في كنس جيش الفاسدين. وهذا الجيش لا يقتصر على من يصرّ الإعلام في لبنان على حصره في لائحة سياسيين. وكأن البقية ــــ من اقتصاديين وتجار ورجال أعمال ورجال دين وإعلاميين وخبراء وناشطي المنظمات الممولة من الخارج ــــ ليسوا من أعضاء هذا الجيش الذي ينهش في جسد لبنان.
بات واضحاً، اليوم، حجم الخطر الذي يحدق بالحراك. والخطر، هنا، ليس من أهل الحراك وجمهوره الحقيقي. بل من مساعي أركان هذا الجيش لنقل المواجهة الى مكان آخر، وإلى إعادة إحياء الشعارات الزائفة حول تعايش الطوائف والطائفيين، وحول وحدة البلاد من شمالها الى جنوبها، وحول الدور السياسي لهذا الفريق أو ذاك، وحول علاقات لبنان بالخارج، وحول أحوال الموضة والتسوّق والصراعات المالية والتجارية. وكأن الناس المقهورين الذين يعانون البطالة والعوز، وباتوا لا يثقون أن في إمكانهم تعليم أولادهم أو توفير ملاذ صحي لهم أو عمل، ليسوا هم أصحاب القضية.
لذلك، بات واجباً تحذير الجميع من خطر الفوضى التي تهدد كل شيء: الحراك وما بقي من استقرار في لبنان. الفوضى التي تعيد بثّ الروح في التوترات، التي سرعان ما تأخذ أبعاداً مناطقية وطائفية وجِهَوِية، وسرعان ما تستدعي الخارج للتمويل والدعم والتسلح والغطاء السياسي. وتستدعي آليات الاستفزاز الباحثة عن ضربة ورد عليها. وتستدعي العاطلين عن العمل ودفعهم ليكونوا جيوش الجيل الجديد من ورثة الطائفيين على اختلافهم.
يلعب بعض الاعلام أقذر الادوار في تقديم الشعارات السياسية على المطلبية ويسدّد فواتيره الى القوى الداعمة له


أصحاب المصلحة في نشر هذه الفوضى باتوا أكثر من المتوقع. من بينهم قوى السلطة التي تعتقد بأن الفوضى تعيد إنتاج قواعدها للعودة الى لعبة الحوار من فوق من أجل المكاسب من فوق أيضاً. ومن بينهم، كذلك، أصحاب النفوذ في المؤسسات المالية والاقتصادية الذين يريدون إعادة تعويم تجربة مافيات الحرب لكسب المزيد من الأموال غير المشروعة. ومن بينهم، أيضاً، القوى السياسية المتقلبة ــــ تارة في السلطة وطوراً في المعارضة ــــ والساعية الى تحسين شروطها. كما أن من بينهم المجموعات التي تعيش على تمويل الخارج وتريد تسديد الفواتير له، والإعلام الخاضع لسلطة المال والميليشيات الطائفية. هذا الإعلام الذي يتوهم أن بإمكانه الحلول مكان أهل الحكم، والذي يقوم بأقذر الأدوار في تقديم الشعارات السياسية على الشعارات المطلبية، لأنه ــــ أيضاً ــــ يسدّد فواتيره الى القوى السياسية والمالية التي لا تزال تموّله من أموال الناس والدولة. وهذه هي الحال مع غالبية القنوات التلفزيونية التي سبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي استغل نفوذه داخل المؤسسات التابعة لمصرف لبنان وداخل القطاع المصرفي ومع كبار التجار، لمعالجة مشكلات أصحابها، وسهّل لها الحصول على قروض مالية كبيرة، لم يصرف منها قرش واحد في المؤسسات الإعلامية أو لتحسين ظروف العاملين فيها، بل استخدمت لخدمة أصحاب هذه الوسائل ومشاريعهم التجارية الجانبية.
الفوضى المحدقة بالحراك خطيرة لأنها ستضع الناس أمام الاختيار بين الاستمرار في المطالبة بالتغيير الشامل، والفوضى الأمنية والانهيار المالي. يراد، اليوم، أن يقال للناس إن عليكم أن تختاروا: إما القبول بحكم الفاسدين في الدولة والاقتصاد والإعلام والمُستَولِين على القطاعات التربوية والصحية والاجتماعية، وإما الذهاب الى فوضى وحروب تنال من راحتكم وأمن عائلاتكم.
وإذا كان الحراك لم يتشكّل على هيئة تحرّك منظّم تقف خلفه قوى أو تحالفات واضحة، فإن الوقت لا يزال متاحاً لخلق إطار تنسيقي يحميه من عملية التسييس القائمة لأهداف لا تخصّه. وهو إطار ضروري، لكون جيش الانتهازيين يتحرك بقوة داخل الساحات، ولأن الإعلام يريد أن يقرر ما هي المطالب الحقيقية للناس، علماً بأن هذا كله لا يعفي السلطة، وقواها كافة، من التصرف بواقعية بدل الإنكار والمكابرة. أما التذرع بأننا لا نعرف مطالب الناس فهو عذر أقبح من ذنب. الشارع يريد، أولاً، شراكة تمنحه حق الرقابة الفعلية على ما تقوم به مؤسسات السلطة ويريد التثبت من وصول شخصيات الى مواقع القرار والإشراف على إنفاق المال العام وإدارة مؤسسات الدولة. وهو أمر متاح، ما لم تواصل السلطة عمليات فحص دماء الطائفية والولاءات الشخصية لكل مرشح لتولّي وظيفة عامة. ولأن الناس يريدون الخلاص من زمن ربط مصير البلاد ومقدراتها بأشخاص دون غيرهم. هل بات لبنان عاجزاً عن إيجاد حاكم جديد لمصرف لبنان يتولى الإشراف على آليات منطقية وعملية ولاسياسية للسياسات النقدية في البلاد؟ هل يخلو لبنان من شخصيات تجيد إدارة وزارات الخدمات كافة من دون الخضوع لوصاية هذه الجهة السياسية أو تلك؟ وهل بات خالياً من كوادر قادرة على حفظ الحق العام في البحر والبر والهواء؟ هل بات لبنان عاجزاً عن إدارة مرفق عام، حتى يكون البديل بيع الدولة إلى أثرياء جمعوا أموالهم من السرقات والفساد.

الدور الابرز في منع الفوضى لقوى أمنية وعسكرية يجب ان تفكر قياداتها بأن طموحاتها السياسية لم تعد تنفع


على أن الدور الأبرز في منع انزلاق الجميع نحو الفوضى المدمرة، هو لقوى أمنية وعسكرية، يجب أن تفكر قياداتها، لمرة واحدة، بأن طموحاتها السياسية لم تعد تنفع. هذه القيادات الطائفية لم تعد قادرة على حماية مواقعكم. ووعود الدول الخارجية لكم بمناصب وامتيازات لم تعد قابلة للتحقق. انظروا من حولكم كيف يهرب الغرب، تاركاً من وثق به وتعامل معه. وإذا لم تبادر القوى العسكرية والأمنية الى ابتداع وسائل تمنع صدام الناس بعضها ببعض، وتمنع استغلال هذا أو ذاك لإدارة الحراك، وهو أمر في إمكانها فعله، فسنكون أمام انقسامات تطيح وحدة هذه القوى وفعاليتها. عندها، سيقول الناس بأن من غير المجدي إنفاق قرش واحد على جيش وقوى أمن وأجهزة لا تبادر الى حماية السلم الأهلي...
لبنان اليوم على مفترق طرق. والفوضى التي تهدّد الحراك الشعبي ستجلب العار لكل من يعلم ويصمت، ولكل من يصرّ على أنه الأكثر معرفة، وكل من يمارس فوقيّة أخلاقيّة على الآخرين.