رجع ميشال عون الى لبنان كي يجبه سلطة ابعدته، وغادر عصام فارس بعدما شهد سلطة شارك فيها لعقد من الزمن تتفكك، وينقلب بعضها على بعض آخر، ومعظمهم في الأصل حلفاء سوريا، كي يضعوا الدولة والبلاد عند تقاطع قوى 8 و14 آذار. حينما عاد عصام فارس بعد 11 عاماً، كان هذا التقاطع الذي لم ينخرط فيه تلاشى وأفلس.في اولى حكومات العهد الجديد طُرح اسمه نائباً لرئيس الحكومة لفك الاشتباك بين المتنازعين على المنصب. في الثانية، الجاري الخوض فيها، طُرح مجدّداً. بعد تجربة حكومتي 2000 و2003 برئاسة رفيق الحريري، اقترن اسمه بفك الاشتباك. فيهما كانت التجربة الاصعب في تعايش رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة لا مثيل للعداء المستحكم بينهما، والممالأة المعلنة والكراهية المكتومة، منذ اتفاق الطائف. قد يصح تعميمها ايضاً على ما قبل الاتفاق.
اختلف كميل شمعون مع عبدالله اليافي وصائب سلام ورشيد كرامي، وفؤاد شهاب مع صائب سلام، وشارل حلو مع عبدالله اليافي، وسليمان فرنجيه مع صائب سلام ورشيد كرامي. لكن لم يبلغ ما بين اي من هؤلاء ما بين اميل لحود ورفيق الحريري. منذ اليوم الاول لعهد الاول وقعت القطيعة من دون أن تفلح ـــــ أو تشأ ـــــ سوريا في رأبها. في الولاية الممددة اغتيل الثاني ايذاناً بانهيار شامل. ما بين هاتين المرحلتين هزم رفيق الحريري اميل لحود في الانتخابات النيابية عام 2000، وفرض عليه ان يكون رئيساً للحكومة، ثأراً لاقصائه عام 1998، قبل ان يعمد رئيس الجمهورية بعد اربع سنوات الى تكرار لعبة الاقصاء نفسها، مستعيناً ـــــ كما في كل مرة ـــــ بدعم سوري حدّد سلفاً سقف المشاركة في الحكم: استجابة شروط اميل لحود. ليس رفيق الحريري وحده مَن تكبّد ثمن هذا السقف. تباعاً أُخرِج اصدقاؤه السوريون الاقوياء من المعادلة اللبنانية: حكمت الشهابي وعبدالحليم خدام وغازي كنعان. امضى الرجلان الولاية الاولى في لعبة تدمير متبادل.
في حكومتي 2000 و2003 كانت ثمة محاولة مختلفة لتوطين تعايش الحد الادنى، في مرحلة كانت البلاد خارجة لتوها من تحديات مهمة: انسحاب اسرائيل من الجنوب، انتقال السلطة في سوريا من الرئيس الاب الى الرئيس الابن، انتخابات 2000 بتداعياتها التي ارست توازناً داخلياً جديداً بين الموالاة والمعارضة، ارتفاع نبرة الاعتراض المسيحي ومناداة وليد جنبلاط باعادة انتشار الجيش السوري، الاحتلال الاميركي للعراق، وصولاً الى القرار 1559. دُعي عصام فارس كي يكون نائباً لرئيس الحكومة. كانت المرة الاولى يصبح للمنصب دور سياسي لا يكتفي بفك الاشتباك، بل يمكّن مَن يضطلع به من توطين تعايش قابل للحياة بين نقيضين لا يلتقيان.
من خلال 72 لجنة وزارية وطَّن تعايش اميل لحود ورفيق الحريري


ليست الحال نفسها تماماً في اقتراح اسمه عامي 2016 و2018 لفك الاشتباك بين متنافسين على المنصب، بل ايضاً توفير اوسع قاعدة تفاهم داخل السلطة الاجرائية وترسيخ توازن قواها. كان ذلك مغزى ترؤسه اجتماعات اللجان الوزارية الـ72 في حكومتي 2000 و2003 ووجوده على رأس معظمها.
شكلت السياسة لدى عصام فارس مساراً متقطعاً اكثر منه منتظماً، قبل ان يستكملها بين عامي 1996 و2005. اول عهده فيها منتصف الخمسينات، وارثاً من والده مخايل علاقة وطيدة بزعيم عكار حينذاك سليمان العلي، ساعدت على اقناعه بضم طلال المرعبي الى لائحته في انتخابات 1972. اول ابواب السياسة المحلية. ما لبثت ان اقترنت بابواب شمالية اخرى ابرزها مع سليمان فرنجيه الذي منذ انتخابه رئيساً عام 1970 بدأ مدّ نفوذه الى الشمال المسيحي في الكورة والبترون وبشري، صعوداً الى عكار. كانت انتخابات النيابية عام 1972 دليلاً ساطعاً على فحوى هذا التمدّد وتأثيره، ناهيك بتحالفاته المحلية: صار صهره عبدالله الراسي نائب عكار، وساهم في إنابة حبيب كيروز وجبران طوق في بشري، وباخوس حكيم في الكورة، وجورج سعادة وبطرس حرب في البترون.
منذ معرفته بعبدالله الراسي، الطبيب العامل في السعودية، في الستينات توسّعت صداقة عصام فارس بسليمان فرنجيه رغم ان انتخابات الحقبة تلك (1960 ـــ 1972) فصلت ما بين قضاءي زغرتا وعكار. عندما شارك في اعمال مؤتمري الحوار الوطني في جنيف ولوزان عامي 1983 و1984 نزل الرئيس السابق ومعاونوه في منزله. عام 1988 دعم بداية ترشيح سليمان فرنجيه، ثم ايد مخايل ضاهر محاميه وجاره في القبيات، للسبب المشترك نفسه هو تفادي وقوع شغور في رئاسة الجمهورية، ناجم عن انقسام وطني على الاستحقاق والرئيس معاً، ما يفضي الى انهيار النظام برمته.
لم يكن الوقت كافياً ما بين 18 ايلول و23 منه لانجاح التوافق الاميركي ــــ السوري على المرشح العكاري وفرضه حتى، اذ بدا الشغور حتمياً. مع ذلك، في ظل رفض مسيحي قاطع لانتخابه ـــــ وكانت تلك المرة الاولى يُفكّر في رئيس من الاطراف البعيدة للوصول به الى رأس هرم السلطة ـــــ مصدره بكركي والقوات اللبنانية وقائد الجيش ميشال عون، اقرب ما يكون الى اقرب تظاهرة معارضة مسيحية كانت كافية لاطاحة الحدث. ما لبث، في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، ان اختبر مجدّداً واقعة مشابهة.
فُرِض اجراء انتخابات نيابية عام 1992، وطُلب منه الترشّح في دائرة مسقطه. الا انه فضّل اشغاله في الخارج في انتظار الساعة الفضلى. في جزء من هذا الموقف مقاطعة مسيحية عريضة للانتخابات النيابية بين رأيين متباعدين: احدهما يحمّس على الانخراط فيها وإن في ظل قانون غير عادل، والآخر يحضّ على المقاطعة. عندما دُعي الى الترشح لانتخابات 1996، كانت وطأة المقاطعة المسيحية خفت بعدما جرّبت خطأها الجسيم. لم يقتصر على اخراج الاحزاب المسيحية من السلطة، بل طاول افراغ مواقعها في الادارة الناجمة عن نشوء سلطة ما بعد الطائف باكتمال مؤسساتها الدستورية، فسارعت الى ملء الشغور بالحلفاء. في انتخابات 1996 ـــــ وكان الشمال للمرة الثانية دائرة انتخابية واحدة ــــــ تحالف مع سليمان فرنجيه الحفيد وعمر كرامي في لائحة ائتلافية حصدت 17 من المقاعد الـ28، بينما فازت لائحتان منافستان بـ11 مقعداً.
لكن التجربة السياسية الفعلية كمنت عام 2000، في استحقاقين متتاليين: ترشحه للانتخابات، وتعيينه ـ للمرة الاولى ـ نائباً لرئيس الحكومة. خلافاً لعام 1996 اذ بدا احد اقطاب الدائرة الانتخابية الواسعة في الشمال مع عمر كرامي وسليمان فرنجيه، دخل انتخابات 2000 في دائرة انتخابية اصغر هي عكار والضنية وبشري. تنكّب عبء لائحة في دائرة متنافرة لا سابق لها في قوانين الانتخاب. أُثقِلَ على قضاء عكار المختلط إلحاقه بقضاءي الاصولية السنّية في الضنية والاصولية المسيحية في بشري. قبل الوصول الى الانتخابات اقترح مرة تلو اخرى اعادة النظر في القانون، فلم يُصغَ اليه. فاتح رفيق الحريري في لقاء جمعه به في يخته في الضبية في حضور بهيج طبارة في اعادة تقسيم الدوائر واخراج عكار من الدائرتين الأخريين. كانت تلك ايضاً وجهة نظر الرئيس السابق للحكومة المنخرط في معارضة رئيس الجمهورية، مسلماً على مضض بقانون جعل بيروت دوائر انتخابية ثلاثاً.
كانت الانتخابات الاولى في عهد اميل لحود، لكنها ايضاً اشتباك مباشر بينه ومناوئه الاول رفيق الحريري الذي أُخرج من رئاسة الحكومة، فشق طريقاً الى معارضة ضارية. لم تكن عكار خط تماس بينهما، ولذا لم يشأ رفيق الحريري ان يجبه بها على نحو ما فعل في بيروت بخوضه الانتخابات في دوائرها الثلاث وتصويبه على رئيس الحكومة سليم الحص كي يهزمه فيها اياً يكن الثمن، وهو ما حدث. في عكار، البعيدة عن تماسهما، مال الى التعاون مع عصام فارس.
افضت انتخابات 2000 الى خسارة لائحة عصام فارس في الدائرة المثلثة الاقضية خمسة مقاعد، مكتفية بستة من مقاعدها الـ11. في هذا الاستحقاق، في قضاء غالبية سكانه سنّة، بات عصام فارس الارثوذكسي مرجعيته السياسية. ثبّت للمرة الاولى مرجعية ارثوذكسية في الاطراف لم يسبق ان خبرها سياسيو الطائفة، هم الذين عدّوا لأنفسهم أربعة ملاعب رئيسية لها: الدائرتان الاولى والثالثة من بيروت والكورة والمتن. بعدما اصبح لعكار نائبان ارثوذكسيان منذ انتخابات 1992، راحت في الاستحقاقات التالية تسعى الى التحوّل مرجعية سياسية لها زعيمها في رأس هرم الحكم تستمد دورها منه.
كان ثمة عامل اضافي سابق لولوج الباب السياسي. عام 1985 انشأ مؤسسة حملت اسمه مقرها في بيروت تولت خططاً تداخل فيها الاجتماعي بالانمائي في عكار. فاتحتها مستوصفان في بينو وتل عباس، أُلحِقا بعشر سيارات اسعاف جوالة على البلدات العكارية مزودة طبيباً وصيدلياً ومخزن ادوية لمعاينة الاهالي، دورياً، بلا روزنامة او ملفات سابقة استمرت طوال عقد ونصف عقد من الزمن بلا توقف. تباعاً على مرّ التسعينات بنى 15 قصراً بلدياً في القضاء، وقدّم منحاً مدرسية تجاوزت 35 الفاً، وشق طرقاً من بينها ربط القبيات ببلدته بينو اليي انشأ فيها محمية طبيعية وبحيرة اصطناعية، ناهيك بمساعدات اجتماعية. قدّم ارض جامعة البلمند الارثوذكسية وبنى منشآتها. دعم الابرشيات وحمل معظم الجامعات العاملة في لبنان اسمه على قاعة او مبنى. اذذاك اقترن في الرجل الدور السياسي المتأخر بالدور الانمائي المبكّر.
لأنه ماثل رفيق الحريري في امتلاك ثروة ضخمة ومصالح تجارية موزّعة في اصقاع الارض، مثله يتمتع بعلاقات اقليمية ودولية وطيدة جعلته صديق انظمة وزعماء كبار، نُظر الى وجوده في المنصب الجديد على انه الكابح المفترض لرئيس الحكومة. تارة بفك الاشتباك بينه رئيسي الجمهورية، وطوراً بالمساعدة على ترجيح كفة الرئيس.
الترجمة الفعلية للمهمة هذه ايجاده الآلية الملائمة لفك الاشتباك: اللجان الوزارية. في حكومتي 2000 و2003 ترأس عصام فارس اجتماعات 72 لجنة وزارية عنيت، عند كل خلاف بين الرئيسين، بالعثور على سبل التوفيق بينهما بالتوصل الى الصيغ الملائمة، ترفع بموجبها توصيات المعالجة. كلما اختلفا على ملف وُلدت لجنة وزارية تنتهي مهمتها بالتفاهم على حل او يبقى الملف في جواريرها. ما يتفقان عليه لا يعوزه هذا المتنفس. لأن الرئيسين على كمّ كهذا من التناقض، اختار لعضوية اللجان الـ72 في الغالب وزراء يمثلون الاتجاهات المختلفة في الحكومة، كي يبدو الافرقاء جميعاً معنيين بالمخارج المطلوبة. كأن يمسوا على رأسهم نائب رئيس الحكومة فريقاً ثالثاً قادراً على تنظيم الخلاف، وفي الوقت نفسه ضمان دوران ماكنة الحكم والسلطة.

في منصب عُرفي بلا صلاحيات، أضحت نيابة رئاسة الحكومة معه ذات دور سياسي


اضاف مهمة موازية الى هذا الدور. فور تعيينه، انشأ فريقاً استشارياً حوله عهد اليه في درس جدول اعمال جلسات مجلس الوزراء. ضم الفريق عبدالله عطية وعبدالله بوحبيب وفخري صاغية ومناف منصور ومصطفى الحجار وفؤاد الترك وحنا حداد ثم خلفه فؤاد هيدموس وآخرين تبعاً لمضمون الملف، راح يجتمع دورياً قبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء برئاسته. يناقش جدول الاعمال ويضع الاقتراحات في شأن بنوده، يعمد نائب رئيس الحكومة الى طرحها في الجلسة. مع انه عُيّن نائباً لرئيس الحكومة، للمرة الثالثة، في حكومة عمر كرامي (2004)، كان يحلو له القول انه احب التعامل مع رفيق الحريري وارتاح اليه. قال يوماً: لم ارد مرة ان اكون نائباً لرئيس حكومة الا معه هو بالذات. فرّقت بينهما ملفات عدة، واختلفا، وتبادلا في مجلس الوزراء تصويتاً متناقضاً انطلاقاً من اعتقاد عصام فارس ان موقعه هو الى جانب رئيس الجمهورية، وفي الوقت نفسه تطبيع علاقته برئيس الحكومة من اجل ضمان استقرار السلطة الاجرائية وادائها وظيفتها بينهما. عندما قرّر لبنان شرح موقفه للامم المتحدة من القرار 1559، من غير ان يذهب اليها اميل لحود او رفيق الحريري ـــــ وكلاهما تباينا الى حد في تقييم تبعاته المحلية والدولية ـــــ خطب عصام فارس بديلاً منهما على منبر نيويورك في ايلول 2004 كي يفصح عن الموقف اللبناني الرسمي: يدعم الشرعية الدولية ويحترم قراراتها وينصاع اليها، لكنه يطلب امهاله الوقت لتقدير تنفيذ القرار بما لا يزعزع استقرار البلاد.
لم يتح لحكومة 2004 ان تعمّر طويلاً وهو في المنصب نفسه. باغتيال رفيق الحريري باتت في صدارة الاتهام والتقصير، ما حمل رئيسها عمر كرامي تحت وطأة غضب الشارع على الاستقالة. بانقضاء شهرين اتخذ عصام فارس خيار الابتعاد. احجم مجلس النواب عن وضع قانون جديد للانتخاب رغم رسالة رئيس الجمهورية اليه، وأصر على اجراء الانتخابات في 31 ايار متأثراً بالضغوط الدولية. مستبقاً العاصفة الآتية، قرّر الخروج من اللعبة. في 8 أيار غادر البلاد.



إلى يسار رئيس الجمهورية
بتعيينه نائباً لرئيس الحكومة، كان عصام فارس يحل في المنصب الارثوذكسي الاعلى للطائفة. يجلس الى يسار رئيس الجمهورية ــــ وكانت معرفته به حينذاك عابرة ـــــ قبالته رئيس الحكومة. مع ان الدور المعوّل عليه فيه ان يكون كذلك في المرحلة الجديدة التي اعادت رفيق الحريري الى السرايا اقوى من اي وقت مضى، بما في ذلك اولى حكوماته عام 1992، متسلحاً بكتلة نيابية كبيرة اولاً، وبزعامة مطلقة على بيروت، وبقيادة سياسية سنّية اولى حجبت دونها ما عداها.
لم تكن لنائب رئيس الحكومة صلاحيات دستورية. موقع عُرفي اكثر منه واقعياً. معنوي ارضاء للطائفة الرابعة الاكبر عدداً اكثر منه مرجعياً. اقل اهمية من ذاك المعطى الى الطائفة نفسها في نيابة رئاسة المجلس ذات الكيان المنصوص عليه في المادة 44 من الدستور وتُنتخب فور انتخاب رئيس المجلس، ويرعى صلاحياتها النظام الداخلي للبرلمان. ليس لنائب رئيس الحكومة شيء من ذلك كله. في عدد وافر من الحكومات اللبنانية، لم يكن فيها نائب لرئيسها. مع ان المقعد، غير السيادي، ارثوذكسي، اتى اليه شيعي عام 1946 هو صبري حمادة، وُحجب عن الطائفة مرتين بسبب توزير رئيس سابق للجمهورية في الحكومة جعله يتقدّم اي وزير ارثوذكسي آخر هو كميل شمعون في حكومتي 1975 و1984.