رغم اقتران عمره بسنين مديدة قاربت قرناً، اقتصرت الحياة السياسية لفؤاد بطرس على ربع قرن في الحكم مع ثلاثة رؤساء طبع عهودهم، هم فؤاد شهاب وشارل حلو والياس سركيس في سبع حكومات بين 1959 و1980. ناب عن بيروت مرتين عامي 1960 و1964، وخسر انتخابات 1968، وكان وزيرا للخارجية، فاستقال للفور. مهمتان رئيسيتان ختمتا تجربته السياسية في العقدين الاخيرين، فيما اكتفى بدور المتفرج على الدولة والجمهورية. عام 2001 طلب منه الرئيس بشار الاسد التوسط في حوار بينه والبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير بغية تصويب العلاقات السورية ــــ المسيحية، ثم مهمته الثانية عام 2005 بترؤسه الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب. بعد شارل مالك وغسان تويني، ينطفىء ارثوذكسي ثالث يدين له لبنان بارساء ثقافة سياسية غير مألوفة، وممارسة غير ملطخة، واداء نزيه في الحكم، وتعلق بفكرة الدولة وقوانينها.
كان بطرس احد الآباء الاوائل للشهابية، وآخر المغادرين. احد اثنين، هو وجوزف ابوخاطر، آخر مَن التقوا شهاب قبل ساعتين من وفاته في 25 نيسان 1973. يومها، رافق بطرس الى المدخل الخارجي للبيت، ثم الى الدرج، وودعه بابتسامة: لا تحمل السلم بالعرض. إحمله بالطول. هل سمعتني؟
على وفرة سوداوية شهاب يومذاك، كان اكثر تفاؤلا من الوزير الاقرب اليه بعد فيليب تقلا، المؤتمن على ديبلوماسية لبنان وسياسته الخارجية. لسنين طويلة لم يفارق التشاؤم الرجل، وكان يملك ما يكفي من الحجج لتبرير المسحة تلك، وقد ابصر لبنان، منذ اخفق عهد سركيس في السنتين الاوليين ودخل في مدار ادارة الازمة لا حلها، يوشك على التفكك. في السنوات الاخيرة راح يقصد مكتبه في الحازمية بعض الوقت ويستقبل زواره لوقت قصير، مفضلاً الاصغاء على ابداء الرأي. مغزى صمته تفصح عنه للفور عبارة مقتضبة، هي نفسها كان يرددها شهاب: انتهى لبنان. حرام. ضيعان هذا البلد. كأن شيئا لم يفعلاه طوال عهد يكاد يكون الوحيد يتذكره اللبنانيون في هذه الايام. كأنهم لم يصدقوا انه كان.
آخر مهماته ترؤس الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب، فحيل دون مشروعها

مَن تراه ينسى وزير العدل وجها لوجه مع الشعبة الثانية يوم تعيين القاضي اميل ابوخير رئيسا للمحكمة التي مثل فيها مسؤولو الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد محاولة الانقلاب عشية رأس السنة 1961. اصدرت محكمة التمييز العسكرية في 15 تشرين الثاني 1963 احكاما مبرمة بالاكثرية على المتورطين في المحاولة، اثر تحفّظ رئيسها ابو خير عن وصف الانقلاب بجريمة عادية لتبرير احكام بالاعدام، فحال دون تنفيذها، متشبثاً بوجهة نظر رفضها القضاة العسكريون، الا ان رئيس الجمهورية سلّم برأي القاضي الذي كان اختيارا شخصيا لبطرس.
يوم تعيينه سأل الرئيس الوزير: هل تجمع القاضي بضباط الشعبة الثانية علاقة ما. رد بالنفي. سأله: ألا يؤدي ذلك الى مشكلات معهم؟ اجاب الوزير: في سبيل مصلحة لبنان واسمك وللتاريخ، ينبغي تعيين اميل ابوخير.
كان بطرس قبلا قاضيا. بالطريقة نفسها، كما سركيس القاضي الآخر، تعرّف اليهما شهاب قبل ان يصبح رئيسا، ثم اضحيا توأم الشهابية.
في آذار 1946، تفقّد وزير الدفاع مجيد ارسلان يرافقه شهاب، وكان قائدا للجيش، المحكمة العسكرية. كان بطرس قاضي التحقيق العسكري بين مستقبيلهما. بعد جولته، سأله ارسلان: تأتيني احيانا اخبار عن اشخاص يكونون أوُقِفوا ظلما. ماذا عليّ ان افعل كي اتدخّل؟ رد بطرس: لا تستطيع ان تفعل شيئا، ولا ان تتدخل. يمكنك لفت المدعي العام الى الامر، وهو يرى في حال اقتناعه ان يخلي الموقوف. ثم يكون القرار لقاضي التحقيق. قال ارسلان: اي انت! ألا استطيع التحدّث اليك مباشرة؟ رد: بحسب الاصول لا، لأنني قاض جالس. اذا فعلتَ تكون تتدخّل في القضاء وتخلّ بمبدأ فصل السلطات. لذلك يتعيّن عليك التكلم مع النيابة العامة. في ذلك اليوم كتب شهاب اسمه في دفتره الصغير، وحفظه حتى انتخابه رئيساً بعد 13 عاما.
كتب بيان عزوف شهاب عن الترشح لانتخابات 1970، رغم حماسته لهذا الخيار. زار الرئيس في 4 آب في منزله الصيفي في عجلتون، وحاول اقناعه بتكرار التجربة. احجم الرئيس بعد شرح الاسباب: الوضع دقيق جدا، ونحن مقبلون على احداث خطيرة ودقيقة جدا في لبنان ومحيطنا. ستكون امامنا صعوبات ومشكلات سياسية وعسكرية قد تضطرني إلى استخدام الجيش. عندئذ سيعارض رئيس الحكومة ويرفض على غرار ما حصل مع سواي وتتكرر الازمات الداخلية. رغم صلاحياتي الواسعة كرئيس، الا انها لن تسمح لي بمواجهة الاحداث، ما يسيء الى صورتي لدى الناس. هل تريد لي إنهاء حياتي السياسية بفشل كهذا؟ اذا كانوا مقتنعين بترشحي ليعدّلوا الدستور حتى يكون في وسعي التصرّف. رد: ما يطلبونه تعديل الدستور في الاتجاه المعاكس، اي تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لا تعزيزها. قال الرئيس: اكتب لي بيانا بالفرنسية، وارسله إليّ لأرى. عاد بطرس إلى منزله الصيفي في عاليه واعدّ بيان العزوف.
في عهد سركيس، كان على طرف نقيض حاد من سوريا، الا انه لم يشجع على انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية. ومنذ اليوم الاول للعهد راهن مع سركيس على بعث الروح في الشهابية. ويروي بطرس وقائع حوار مع الرئيس حافظ الاسد في 25 تشرين الثاني 1976، في اول اجتماع بينهما موفدا من سركيس للبحث في السياسة التي ستنتهجها اولى حكومات العهد. استقبله الاسد في منزله من الثانية عشرة ليلا حتى الرابعة فجرا. قال بطرس: نفضل تأليف حكومة وفاق وطني يشارك فيها الافرقاء المتحاربون ويكونون معا من اجل المصالحة الوطنية. ولمح الى ضم كمال جنبلاط وبيار الجميل الى حكومة واحدة تكرارا لتجربة 1958. اظهر الرئيس السوري رفضا لتوزير جنبلاط، فقال بطرس: اذا اردنا اقصاء الحركة الوطنية لا يمكننا التعامل مع الجبهة اللبنانية. ابتسم الاسد وقال: يا اخ فؤاد هذه نظريات لا تزال تحتفظ بها من ايام النهج الشهابي. فردّ: لا ياسيادة الرئيس، انها مستقاة من تكوين لبنان وثوابت معادلته الوطنية التي لا يصمد من دونها. بل ينهار.
ها هو احد آخر ابناء المعادلة تلك يغادر، وقد أمست مهشمة.