رام الله | كلّما اقتربت الحكومة الإسرائيلية العتيدة من إبصار النور، كلّما ارتفع منسوب الإرهاب والإجرام في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، في ما من شأنه أن يرسم بوضوح معالم المرحلة الجديدة التي يُقدِم عليها الفلسطينيون، والتي تضعهم في مواجهة تحدّيات قاتمة وخطيرة. وعلى رغم ثقل وطأة المجزرة التي ارتكبها العدو أمس في مخيم جنين، والتي خلّفت حزناً وغضباً في عموم فلسطين، إلّا أن إصرار المقاومة على الاشتباك مع الاحتلال، وحالة الالتفاف الشعبي التي تحظى بها خصوصاً في الضفة الغربية، ينبئان بأن «كواسر الأمواج» الآتية، قد لا تفعل أكثر ممّا فعلته «كاسر الأمواج» الأولى
لم يكن مصادفةً أن يودّع الفلسطينيون، أمس الخميس، 5 شهداء ارتقوا برصاص الاحتلال، في الذكرى الـ35 لاندلاع الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، بل قد تكون في ذلك دلالة على أن سيرة الدم والمقاومة لم تتوقّف البتّة فوق أرض فلسطين. سيرةٌ سجّلت أمس فصلاً جديداً، مع يوم مثقل بالحزن والغضب عاشتْه الأراضي المحتلّة من شمالها إلى جنوبها، إثر ارتكاب العدو مجزرة في جنين، أدّت إلى سقوط 3 شهداء، هم عطا شلبي (46 سنة)، وطارق فوزي الدمج (29 سنة)، وصدقي صديق زكارنة (29 سنة)، خلال اشتباكات مسلّحة وُصفت بـ»الأعنف» خلال العام الجاري.
واقتحمت دوريات الاحتلال، منذ ساعات الفجر الأولى، برفقة جرّافات عسكرية ضخمة، مدينة جنين ومخيمها من المداخل كافة، واحتلّت العديد من البنايات، ونصبت فِرق القناصة فوقها، بعدما كانت قوّات خاصة سبقتْها إلى التسلّل. وعلى إثر الاقتحام الذي حدّد العدو الهدف منه باعتقال أحد المقاومين ممِنّ لهم علاقة بتفخيخ مركبة انفجرت قبل أسابيع وكانت معدّة لتنفيذ عملية فدائية، خاض المقاومون اشتباكات مسلّحة استهدفوا خلالها قوات الاحتلال بالرصاص الكثيف والعبوات الناسفة المحلّية الصنع، وفق ما أعلنته «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، و»كتيبة جنين»، و»كتائب شهداء الأقصى»، مؤكدة أن «خسارات مباشرة وقعت في صفوف جنود العدو الذين سُمع صراخهم»، بينما أكد شهود عيان وجود مركبة إسعاف إسرائيلية في المكان.
من جهته، روى شاهد العيان، المسعف غسان السعدي، ما جرى في مقطع مصوَّر له، قائلاً إنه «انطلق خلف مركبة إسعاف من وسط مدينة جنين، بعد سماعه صوت إطلاق نار، وعندما وصلنا قرب الدوار الرئيس، لاحظنا وجود شهيدين على الأرض، فحاولنا مع طاقم الإسعاف سحب أحدهما، فيما لم نتمكّن من إنقاذ الآخر جراء كثافة النيران من الجنود المقتحمين»، مضيفاً: «حاول شبّانٌ آخرون انتشال الشهيد الثالث لنقله إلى مستشفى الرازي، إلّا أن قوة من جيش العدو سارعت إلى منعهم خلال انسحابهم من إحدى العمارات السكنية». أمّا المواطن أشرف أبو الراكز، الذي يقع منزله عند أحد مداخل المخيم، فوصف العملية بـ»الأعنف»، قائلاً في مقطع مصوَّر أيضاً: «شاهدنا اقتحاماً كبيراً لقوات الاحتلال لم نشهده من قَبل، حين شرعت جرّافة بالدخول إلى المخيم من جهة دوار العودة من أجل إزالة حاجز نصبته المقاومة، إلّا أن مقاومين تمكّنوا من تفجير عبوة ناسفة كانت مزروعة سابقاً في الجرافة، فعطّلت تقدمها». وأضاف أبو الراكز: «بعد إعطاب الجرافة، تقدّم جيب عسكري وبدأ الجنود بإطلاق النار والمتفجّرات نحو المنازل، حيث تضرّر أحدها بشكل كبير علماً أنه كانت تسكنه سيدة مع أطفالها، ليسارع العديد من الجيران إلى نقل تلك الأسرة إلى منزل مجاور لتأمينها من كثافة النيران، بعد أن تضرّرت أيضاً خمسة منازل أخرى في الجوار». وفي أعقاب هذه التطوّرات، رفع جيش الاحتلال حالة التأهّب في الضفة، «خشية عمليات فدائية انتقاماً لأحداث جنين»، وفق ما أفادت به وسائل إعلام عبرية.
يدرك الفلسطينيون أنهم سيكونون أمام مرحلة أكثر قتامة وخطورة على غير صعيد


ويأتي إيغال العدو في تصعيد جرائمه في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، في وقت تقترب الحكومة اليمينية العنصرية من إبصار النور. وتزامنت مجزرة جنين مع إعلان توصّل الرئيس المكلّف، بنيامين نتنياهو، إلى اتفاق مع حزب «شاس» اليميني الديني لضمّه إلى الائتلاف، مقابل تولّي رئيسه، آرييه درعي، وزارتَي الداخلية والصحة خلال النصف الأول من ولاية الحكومة الجديدة، ووزارة المالية في النصف الثاني. وبذلك، تكتمل أركان الائتلاف الفاشي، بعدما توصّل نتنياهو إلى اتفاق مع حزب «الصهيونية الدينية» على تولّي زعيمه، بتسلئيل سموتريتش، وزارة المالية لمدّة عامين. وتُعزّز هذه التشكيلة التوقّعات بأن تشهد الأراضي المحتلّة انفجاراً يبدو حتمياً، على ضوء تسلّم بن غفير وسموتريتش الدوائر والوزارات ذات الصلة بالفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، سيتولّى إيتمار بن غفير، رئيس حزب «عوتسما يهوديت» (قوة يهودية) منصب وزير الأمن القومي (وزارة مستحدثة من الأمن الداخلي)، مع سلطات واسعة على الشرطة وقوّات «حرس الحدود» المنتشرة في الضفة الغربية.
وعلى هذه الخلفية، أبدى وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي المنتهية ولايته، عومر بارليف، مساء الأربعاء، تخوّفه من أن «يشعل خلَفه في المنصب، بن غفير، الشرق الأوسط ويقود إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة»، محذراً من أنه «في حال قرّر بن غفير الصعود (اقتحام) إلى جبل الهيكل (الحرم القدسي) وهو في منصبه كوزير، ستشتعل الأوضاع»، مضيفاً أنه «إذا عمل (بن غفير) على تغيير الإجراءات المعمول بها حالياً، والتي بموجبها لا يصلّي اليهود في جبل الهيكل، سيفجّر ذلك الشرق الأوسط، لا شكّ في ذلك على الإطلاق». ويتّضح، على ضوء التطوّرات الأخيرة، أن الدم الفلسطيني أصبح مادّة للمزايدة والمناكفة بين الحكومة الحالية والحكومة العتيدة، إذ إن الأولى، برئاسة يائير لابيد، والتي اتُّهمت من قِبل نتنياهو وأقطاب اليمين بتقييد يد الجيش، تريد إثبات عكس ذلك في أيامها الأخيرة، من خلال الإيعاز إلى الأخير بعدم التقيّد بأيّ شروط في عمليات إطلاق النار. على أن هذا «التفلّت» قد يكون بدأ به الجيش أصلاً من دون الحاجة إلى تعليمات سياسية نظراً إلى الحصانة التي يتمتّع بها جنوده، في ما قد يكون توطئة للوضع الذي سيتشكّل في المرحلة المقبلة مع تسلّم الحكومة الفاشية زمام السلطة.
على أيّ حال، أرست الأسابيع الأخيرة في الضفة، معادلة واضحة قِوامها أن السياسة الإسرائيلية مستقبلاً لن تعتمد سوى على مزيد من الإرهاب في التعامل مع الفلسطينيين. وبالتالي، فإنه إذا لم تكن الجرائم المرتكَبة حالياً كافية لإنهاء حالة المقاومة، فإن جيش الاحتلال، في ظلّ حكومة اليمين، سيلجأ إلى إرهاب أوسع وأشمل وأعمق ضدّ الفلسطينيين، الذين تنبئ حالة الفعل المقاوم في صفوفهم بأنهم لن يرضخوا أو يستسلموا، بل سيزدادون إصراراً على فعلهم. على أن الفلسطينيين يدركون أنهم سيكونون أمام مرحلة أكثر قتامة وخطورة على غير صعيد، ربّما يصحّ توصيفها بأنها بداية جديدة في المشروع الصهيوني، عنوانها إطلاق العنان للمشروع الاستيطاني، واستباحة المسجد الأقصى وصولاً إلى بناء الهيكل المزعوم، انتهاءً إلى إقامة دولة المستوطِنين الفاشية.