دورة تصعيد جديدة تنتظر العدو: تل أبيب تتحضّر لـ«يوم القدس»
تزامُن المناسبتين، مدعاة قلق لدى الاحتلال، الذي عمد إلى تكييف وجوده المباشر وإجراءاته وسلّة حوافزه مع أوامره العسكرية والأمنية، كي يتجنّب ما أمكن تبعاتهما، وأن لا يكون هو نفسه سبباً إضافياً في التصعيد. وعلى هذه الخلفية، جاءت قراراته الأخيرة، ومن بينها فتح المعابر، ومواصلة السماح للعمّال الفلسطينيين بالوصول إلى أعمالهم في الأراضي المحتلّة، وأيضاً الامتناع عن الردّ على ما يسمّيه «تنقيط» القصف الصاروخي من قطاع غزة، والاكتفاء بالردّ الاقتصادي (المؤقّت)، فيما دخل قرار منع وصول المستوطنين إلى باحات المسجد الأقصى حيّز التنفيذ الفعلي. لكن هل يكفي كلّ ذلك لمنع التصعيد؟ تتأرجح الإجابة بين عدّة احتمالات لا يخلو أيّ منها من وجاهة، فعوامل التصعيد موجودة، والأمر نفسه ينسحب على التهدئة النسبية السارية حالياً. لكن بين هذا وذاك، يبدو الوضع الأمني هشّاً إلى الحدّ الذي يمكن معه لأيّ «خطأ» عملياتي من قِبَل الاحتلال أو المقاومين، أن يدفع نحو التصعيد، ليس في القدس والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 فقط، بل وأيضاً في مواجهة قطاع غزة، وإن ثَبُت أن الجانبين يريدان أن يتجنّباها.
إلّا أنه بناءً على المواجهات التي استعرت في الأيام الماضية من رمضان حول القدس والحرم القدسي، وما سبقها من عمليات فلسطينية موجعة للاحتلال داخل أراضي عام 1948، وكذلك التعاطي الفلسطيني «الحكيم» مع الأحداث عبر محدّدات فرضتها المقاومة على الاحتلال هذه المرّة، يمكن، من الآن، الحديث عن نتائج لا يمكن إغفالها، تتمثّل في الآتي:
أوّلاً: تجميد مساعي إسرائيل للتغيير في «الوضع الراهن» في الحرم القدسي؛ فلا تقسيم زمانياً أو مكانياً كما كان يخطّط له، على رغم معاندة الاحتلال حتى اللحظة الأخيرة. لكن بين التجميد والإلغاء فروقاً كبيرة، إذ قد تعيد تل أبيب الكَرّة ثانية، وإن بالتدرّج، فيما ستكون في المرّات المقبلة أكثر حذراً، مع إدراكها أن للقوّة حدّاً، مهما علت، عليها مراعاته وتكييف مواقفها وتطلّعاتها وفقاً له.
ثانياً: نجحت فصائل المقاومة في قطاع غزة، وفي المقدّمة حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في ربط الساحات الفلسطينية بعضها ببعض، ضمن معادلات وقواعد اشتباك ما زالت حتى الآن غير منتهية الحدود والمعالم. ويُعدّ هذا الربط فشلاً ذريعاً للاحتلال، لا يقتصر على خطّة آنية، وإنّما يشمل سنوات من السعي لفصل الساحات الفلسطينية وتفريقها، بحيث تبقى لكلّ ساحة همومها وتطلّعاتها وأولوياتها. والفشل الإسرائيلي، هنا، مركّب ومضاعَف، بالنظر إلى أن القدس نفسها هي صلة الوصل بين الساحات، الأمر الذي يعظّم التحدّي أمام الاحتلال، على رغم رهانه على التخاذل العربي في هجمته الأخيرة على القدس.
ثالثاً: ثبت أن السلطة الفلسطينية على هامش الأحداث، ليس لدى النخبة الفلسطينية فقط، بل في الوعي الفلسطيني الجمعي أيضاً. ففي الوقت الذي ظهر فيه للفلسطينيين أن هذه السلطة وأجهزتها الأمنية هي جزء لا يتجزّأ من بنية أجهزة الاحتلال، تأكّد أيضاً أنها غير معنيّة، إلّا عبر بيانات باهتة ومكرّرة، عندما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية عامّة، والقدس خاصة، والحرم القدسي بالأخص. ومن هنا، يمكن القول إن السلطة سقطت في الوعي الفلسطيني، حتى لدى مريديها من أولئك الذين كانوا يتماهون معها في الأمس القريب.
رابعاً: ثبت أيضاً أن الجانب الإسرائيلي يدرك أن للقوة حدوداً يتعذّر عليها تجاوزها؛ فأن تمتلك مزيداً من القوة العسكرية لا يعني أن بإمكانك أن تستحصل مزيداً من النتائج، بخاصة في ظلّ إصرار الفلسطينيين على منع المحتلّ من التمادي في اغتصابه لحقوقهم. وهنا، يَظهر التمايز بين خيار السلطة الفلسطينية، المتماهي مع الاحتلال، والذي لا يستجلب إلّا مزيداً من إهدار للحقوق، وبين خيار المقاومة بأشكالها المتعدّدة، والتي تأكّد أنها قادرة، وربّما هي فقط، على تحصيل ما أمكن من حقّ فلسطيني، وفي الحدّ الأدنى وفقاً للظرف الضاغط على القضية الفلسطينية، من القريب والبعيد، الدفاع عمّا أمكن من حقوق ما زالت على مهداف المحتلّين.