غزة | «أهلاً بكم في البندقية»؛ بهذه الكلمات وصف المواطن محمود أحمد، مشهد الحيّ الذي يسكن فيه في مخيّم جباليا شمال قطاع غزة، حيث غرقت الشوارع في ما زاد ارتفاعه عن المتر من مياه الأمطار، وحوصر المواطنون في منازلهم، فيما لم تجد طواقم الإغاثة وسيلة لاستنقاذ الناس إلّا استقدام القوارب من ميناء غزة إلى مخيّماتها. مشهدٌ ليس جديداً تماماً، إذ إنه يتكرّر سنوياً في أعقاب تصريح «بروتوكلي» مجترّ على نحو موسمي، مفاده أن «البلديات تنهي الاستعداد لاستقبال فصل الشتاء»، لتتبيّن سريعاً هشاشة تلك الاستعدادات، ويبدأ تقاذُف المسؤوليات. يلفت المواطن أحمد أبو يوسف، الذي يسكن حيّ العلمي شمال القطاع أيضاً، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «الحيّ الذي أسكُن فيه يغرق منذ أكثر من عشر سنوات، تدْخل المياه إلى منازلنا، وتخرّب المحالّ التجارية، ومصارف المياه تضخّ فائض المياه إلى منطقتنا ذات المنسوب المنخفض، عوضاً عن سحبها». ويُضيف الرجل بينما يحاول صناعة ساتر ترابي لمنْع تدفُّق مزيد من المياه إلى منزله: «منذ سنوات ونحن نناشد البلدية ووزارة الحُكم المحلّي التدخُّل لحلّ المشكلة، لكن لا حياة لِمَن تنادي، البلدية تعرِفنا وقت جمْع الضرائب، وليس أكثر من ذلك». شوارع المدن الرئيسة لم تكن أحسن حالاً من المخيّمات، فشارع مصطفى حافظ وسط مدينة غزة، مثلاً، وهو الشارع المركزي الذي يضمّ مجمعاً لمدارس المرحلة الأساسية ويربط حيّ الرمال بمجمّع الجامعات الرئيسة في القطاع، غرق على نحو «درامي». تقول المواطنة عبير مراد إن «الشارع يغرق بشكل سنوي، ويتكرّر مشهد محاصرة المياه لطلّاب المدارس، من دون أن تحاول البلدية وضع حلّ جذري للمشكلة». «هذه السنة، كانت الحرب الشمّاعة، لم يخرج مسؤول في البلدية ليقول إن إلقاء المواطنين القمامة في مصارف مياه الأمطار هو الذي تسبّب في المشكلة»، وفق ما يعلّق به المواطن محمد فايز الذي يسكن معسكر الشاطئ، ويتابع: «منذ ما قبل الحرب، والمياه تغمر منازلنا في كلّ شتاء، اعترِفوا بالتقصير ولو مرّة واحدة». لكن وفقاً للصحافي يحيى اليعقوبي، فقد أكدت بلدية غزة أنها نفّذت مشاريع عدّة لمعالجة مشكلة «مصطفى حافظ»، تَمثّل بعضها في حقْن مياه الأمطار في الخزّان الجوفي من خلال عدّة آبار جرى بناؤها. وبحسب البلدية، فإن «ما حدث طبيعي، ويمكن أن يحدث في أيّ دولة جرّاء كثافة الأمطار في مدّة زمنية قصيرة، وعدم قدرة شبكات الصرف الصحّي على تحمُّل ضغط المياه، فما بالُكم لو كانت المنطقة متضرّرة من قصف الاحتلال لها وتنتظر إعادة الإعمار».
لم يقدّم المانحون أيّ تمويل لإعادة إعمار البنى التحتية حتى الآن


بدوره، برّر رئيس اللجنة الحكومية لإعمار غزة، ناجي سرحان، حوادث الغرق التي شهدتها مناطق عدّة في القطاع، بتدمير الاحتلال شبكات تصريف مياه الأمطار. وأوضح سرحان، في تصريحات صحافية، أن «سياسة الحزام الناري التي استخدمها الاحتلال، تسبّبت بتدمير كبير في البنى التحتية». وأشارت إلى أن «المانحين لم يقدّموا أيّ تمويل لإعادة إعمار البنى التحتية للآن»، والتي تحتاج، وفق تقديرات الجهات الحكومية، إلى 50 مليون دولار في المحافظات كافة، 20 مليون دولار منها لمدينة غزة فقط. وفي الاتجاه نفسه، يرى المحامي والناشط في المجال الإعلامي، عبد الله شرشرة، أن «ما جرى في غزة من غرق جماعي، هو وطيد الصلة باستراتيجية إسرائيلية نطلِق عليها استراتيجية الضغط على مراكز المدن»، والتي تعتمد على إلحاق ضرر واسع النطاق بقطاعَي البنية التحتية (الكهرباء، الصرف الصحّي، وإمدادات المياه) والإسكان. ويبيّن شرشرة أن «60% من أضرار عدوان أيار 2021، هي فقط في البنية التحتية والإسكان، وتكلِفتها تتجاوز 292 مليون دولار»، مضيفاً أنه «في غزة لوحدها تضرَّر نحو 130 ألف متر مربّع من الطرق والأرصفة، و1405 من خطوط تصريف مياه الأمطار، كما تضرَّر 14490 متراً طولياً من خطوط الصرف الصحي، و18 مضخّة صرف صحي بين تدمير كلّي وجزئي». ويتساءل: «هل هذه الأرقام صدفة؟»، ليجيب: «بالتأكيد لا (...) هي جزء من استراتيجية الضغط على مراكز المدن، والمرتكزة على فكرة العقاب الجماعي واستدامة الضرر بعد انتهاء الحرب، حيث أنك ستنشغل بآثارها رغم انتهائها، كما يَنتج منها الضغط على الحكومات عبر الضحايا أنفسهم، الذين لن تستطيع الحكومات تلبية احتياجاتهم نتيجة استدامة الضرر».
من جهته، حذر رئيس بلدية النصيرات وسط قطاع غزة، إياد المغاري، من أن «الاحتلال قد يتسبّب في غرق أحياء كاملة بسبب فتْح مجرى وادي غزة»، مُنبّهاً في حديثه إلى «الأخبار» إلى أن «هذا الأمر ينذر بكارثة بيئية، حيث يؤدي فتح السدود إلى فيضان المجرى وغمْر المياه للمناطق والمنازل المجاورة». وأشار المغاري إلى أن البلدية «دعت كافة السكّان المجاورين لمجرى وادي غزة إلى اتّخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، خاصة في المناطق المحيطة كالبريج ووادي غزة والمغراقة والنصيرات»، فيما أفادت المتحدّثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، عزيزة الكحلوت، بأن «العديد من العائلات اضطرّت للنزوح من منطقتَي الأميركية وبركة أبو راشد في شمال قطاع غزة، في حين جرى فتح مدرسة لإيوائهم بموافقة الدفاع المدني، وسيتمّ تزويدهم بالأغراض الأساسية من أغطية ومفارش وأغذية». يُذكر أن فتح السدود لضخّ المياه الفائضة في مجرى وادي غزة، تسبّب خلال السنوات الماضية بغرق مئات المنازل، وهو ما يُخشى أن يتكرّر في الساعات القادمة.