منذ ظهور «داعش» في العراق، مروراً بتمدده إلى سوريا، ووصولاً إلى إعلانه «دولة الخلافة»، كان يتردد سؤال على ألسنة الباحثين والمحللين وفي كتاباتهم، يتعلق بمدى قابلية «داعش» كدولة إسلامية مفترضة، ثم كدولة خلافة، على الاستمرار والبقاء والقدرة على الحياة أو عدمها. بما يعني أن الأمر لا يتعدى كونه مشروع لا يملك القدرة على البقاء والاستمرار والحياة لمدى طويل في ظل ما يحمله من أيديولوجيا تقوم على التكفير والعنف ورفض الآخر، واستغلال حالات الضعف والخلل الأمني في بعض المناطق داخل الدول وهو يستثمر في التوتير الطائفي والمذهبي، وبالتالي مع انتفاء كل أومعظم هذه الاختلالات والتوترات أو تراجعها سيتراجع هذا المشروع ولن يستطيع البقاء و الإستمرار.فالاجابة على هذا السؤال تتطلب استحضار مجموعة مقدمات لأزمة ترتكز إليها الإجابة وتتبلور علمياً:

1. إنَّ «داعش» تملك أيديولوجيا إسلامية خاصة حيث تُعتبر أنّها بمثابة الإبن الشرعي للوهابية من الناحية الدينية وهي امتداد للسلفية الجهادية التي تبلورت في محطة أفغانستان وأدّت إلى ولادة القاعدة هناك، وإن كانت تمثل الجيل الثاني من القاعدة إلا أنَّ هذه الأيديولوجية تفتقر إلى التماسك الضروري، فقد شهدت تشظي وتباين داخلي وتعدد مرجعيات، ومراجعات فكرية ووصل الأمر بالبعض من منظريها إلى تكفير البعض الآخر.
كما أنّها تفتقد إلى القدرة الوظيفيّة بالمعنى السياسي والاجتماعي وهما الشرطان الضروريان لأيّ بنية تحتيّة يحتاجها مشروع قيام الدولة، أي دولة، لجهة توحيد المجتمع والأطياف فيه على قواسم مشتركة وتسامح وتعايش بين مختلف تياراته.
فهي إيديولوجيا لا تنسجم ولا تتصالح مع أيّ من الإيديولوجيات الإسلامية الأخرى من كافة المذاهب الإسلامية، بل هي تكفّر وتُخرج كل الحركات الإسلامية الجهادية السلفية وغير السلفية من دائرتها الخاصة.
وقد ذكرنا في الفصول السابقة من البحث العديد من الشواهد حول هذا الأمر، ولا داعي لتكرارها حيث يمكن العودة إليها. وما لوحظ في سكوت أو تغاضي بعض المرجعيات عن «داعش» في مرحلة من المراحل، كان يصب في الرهان على الاستثمار الوظيفي أكثر مما يوحي بوجود قواسم مشتركة مع الايديولوجية الخاصة بداعش.

2. ما تقدم يؤدي إلى عدة خلاصات أساسية في مجال البيئة الشعبية الحاضنة:
◦ اقتصار امكانية التمدد التعبوي لـ«داعش» على نطاق محدود وضيق، وبالتالي لا يستطيع جذب الشريحة الأوسع من المسلمين. لا سيما في ظل العمل الإعلامي والفكري الذي بدأ بمحاصرة واحتواء قدرتها على التجييش والتعبئة والاستقطاب، من خلال نشر وترويج المواقف والفتاوى الدينية والصادرة عن المرجعيات الإسلامية الرسمية في السعودية ومصر وإيران والعراق وسوريا، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، فضلاً عن ما صدر عن المرجعيات الدينية غير الرسمية من كافة المذاهب الإسلامية، وفضلاً عن الحركات الإسلامية، والقادة والعلماء المسلمين من بيانات وتصريحات وخطابات تصب في استنكار مشروع «داعش» ورفضه، وتهافت ايديولوجيتها، واعتبارها انحرافاً خطيراً عن العقيدة الإسلامية وتشويهاً لها، وقد شهدت السنوات الأخيرة العشرات من اللقاءات والنداوات والمؤتمرات* التي جمعت هؤلاء من كل الاتجاهات حول قاسم مشترك هو رفض ايديولوجيا التكفير والعنف عند «داعش» ورفض مشروعه في إعلان الخلافة واعتباره باطلاً. وهذا يعني أنَّ التصادم والصراع الايديولوجي مع كل المسلمين الآخرين سيستمر ويتطور ولغير صالح «داعش» ومشروعه.
◦ إن تبرؤ الوهابية الرسمية السعودية من أبوّتها لداعش، يدخل الوهابية كأيديولوجيا في حالة تناقض مع الذات وبالتالي يجعلها في أزمة بنيوية عميقة تطال السلفية الوهابية بصيغتها السعودية الرسمية،مقابل السلفية الوهابية بصيغتها الداعيشة.
◦ إن غلو «داعش» في تكفير الآخرين واستباحة دماءهم يؤكد إن هذه الايديولوجيا لا تملك سوى استيلاء الخصوم والاعداء ضمن العالم الإسلامي عموماً (سنة وشيعة) وهي عاجزة عن تكوين بيئة حاضنة حقيقية لها حتى داخل الساحة السنية وعند اتباع المذاهب الإسلامية التي تشترك معهافي معظم الجذور الفقهية.

3. إذا كان «داعش» ومشروع الخلافة قد لاقى تجاوباً إيجابياً في بعض البيئات السنيّة (في العراق وسوريا) في مرحلة الصعود، فإنَّ هذا التجاوب لم يكن لاعتبارات ايديولوجية كاملة بل نسبيّة وجزئيّة، فيما كانت الاعتبارات الأخرى التي فرضت هذا التجاوب عائدة إلى تأزّم واقع هذه البيئات والظروف الطارئة التي تمر بها، أو إلى ضيق خياراتها، أو لمحاولات البعض استغلال «داعش» لاغراض سياسية خاصة. ومع ظهور ممارسات «داعش» العنيفة والدموية في البيئة الداخلية، وصرامة القوانين الاجتماعية التي فرضتها، بدأت حالة التذمر والتمرد والهروب عند البعض من المقاتلين فضلاً عن المدنيين. وبدأت التغييرات تحدث في البيئات الشعبية التي ترفض هذا التنظيم وتنبذه (العشائر كمثال) وقد دفع البعض ضريبة الدم جراء ذلك. وبالخلاصة فإنَّ «داعش» بدأ بخسارة البيئة الحاضنة على نحو متسارع، خصوصاً جراء الهزائم التي تعرض لها في السنوات الأخيرة.

4. لقد بدى واضحاً أنَّ «داعش» عجز عن إمكانية صياغة تحالفات أو علاقات وطيدة أو ايجابية مع مجموعات أو دول أو حركات توفر لها شبكة أمان واعتراف ودعم مباشر. فهو سرعان ما دخل في صراعات حادة على النفوذ والسيطرة في العراق وسوريا مع التنظيمات التي تشبهه ايديولوجياً كجبهة النصرة وسواها من المجموعات المسلحة الجهادية السلفية وغير السلفية، وقد تجازو الخلاف بينها وبين «داعش» المستوى التكتيكي إلى كونه خلافاً استراتيجيا،ً وحتى التنظيمات الجهادية السلفية كالقاعدة وحركة طالبان فإن علاقته بهما لم تكن سوية وشهدت توترات وصلت إلى حد الصدام والصراع الدموي.
نعم يمكن القول إنَّ دولة واحدة هي تركيا نسجت مع «داعش» علاقات أمنية وظيفية وذات طابع استغلالي، إلا أنَّها لا ترقى إلى تشكيل عمق حيوي لداعش، ولا تشكل رافعة شرعية أو دولية له في ظل التوافق الدولي على اعتبار «داعش» تنظيماً إرهابياً. فتركيا أرادت توظيف «داعش» لإسقاط نظام الأسد1، ولكنها لم تستطع تحقيق ذلك من خلالها، رغم أنَّها لم تنخرط في التحالف الدولي لمحاربتها، وغضت الطرف عن مرور مقاتليها والملتحقين بداعش من دول العالم عبر مطاراتها وأراضيها.

أبرز هذه المؤتمرات:
1. المؤتمر الإعلامي لمواجهة الإرهاب التكفيري: دمشق 24/07/2015.
2. مؤتمر جماعات العنف التكفيري (الجذور والبنى والعوامل المؤثرة): بيروت 11 و 12/09/2015.
3. المؤتمر العالمي للإفتاء: القاهرة 18/08/2015.
4. المؤتمر الدولي الثاني لمنتدى الوسطية للفكر والثقافة: عمان (الأردن) 24 – 26/04/2016.
5. المؤتمر العالمي حول ظاهرة التكفير: (الأسباب – الآثار – العلاج): المدينة المنورة 24-26 شوال 1432هـ.
6. المؤتمر الفكري الأول لدراسة ظاهرة التطرف: كركوك (العراق) 18/02/2019



5. لقد استخدمت الدولة الإسلامية/ الخلافة، سياسة التخويف والإرهاب والإكراه لفرض وجودها في البيئة الداخلية، والمعروف أن مثل هذه السياسة وإن نجحت لفترة في فرض سلطة ما، إلاّ أنَّ هذا النجاح يبقى موهومًا، ومؤقتاً وافتراضياً، ويحمل في داخله بذور تقويضه، فضلاً عن أن فرض السلطة امر يختلف كليًا عن بناء دولة فعلية مستقرة.

6. إن النجاح الجزئي للدولة الإسلامية/ الخلافة في بعض المجالات الخدماتية التي استطاعت تأمينها للمواطنين، وإدارة بعض الجوانب في شؤونهم لم يرقى إلى مشروع مؤسساتي خدماتي مكتمل وناجح فهو لم يستطع تجاوز الحد الادنى من الضروريات كالخبز و الوقود والمواد الغذائية وأحياناً المدارس والأجهزة القضائية الشرعية وضبط الأسعار، ولكنه لم يكن لخدماته أية صلة بالرفاه والتقدم، فالحكم الفعلي يقتضي التعامل اليومي وغير اليومي مع متطلبات المجتمع على أنواعها وتوفير ما يلزم لها من موارد وقدرات وطاقات فعلية ولوجستية، وهذا ما لا يملكه «داعش» بالرغم من استيلائه على بعض الموارد القابلة للتسييل مالياً كالنفط والغاز، وبالرغم من إقامته لبعض التشكيلات الادارية وفق نماذج هجينة (من الماضي والحاضر) لم يستطيع التعامل بنجاح مع تعقيدات واحتياجات الحياة العصرية ومشكلاتها، فضلاً عن أنَّ «داعش» وبفعل خوضه لحروب واسعة وعلى أكثر من جبهة فهو مضطر لاستثمار معظم الموارد للحرب والقتال بالدرجة الأولى، ما جعله عاجزاً عن اعطاء أولوية لمتطلبات الحكم، فضلاً عن تقييد حركة سفر المواطنين من مناطقه وإليها في ظل تعقيدات الوضع الأمني غير المستقر والعلاقة السلبية مع المحيط.

7. تعيش الدولة الإسلامية/الخلافة وضعاً متصادماً مع كل الاستراتيجيات الكبرى لدول مركزية في العالم وفي المنطقة، فبالرغم مما شكله «داعش» من بعض الفرص والفوائد لبعض الدول الغربية خصوصاً أميركا، إلاّ أنّه بقي في اطار الفوائد المرحلية والفرص التكتيكية. وقد تم التطرق في البحث لعملية الاستثمار عبر التوجيه غير المباشر، ولكن يبقى «داعش» من الناحية الاستراتيجية يشكل تهديداً فعلياً للغرب ودوله سواء في نموذجه كدولة إسلامية في المنطقة أو من خلال الجهاديين القادمين من دول الغرب والملتحقين بمشروع الخلافة والمتدربين في صفوفها، ثم العائدين إلى دولهم والذين يشكلون خطراً وتهديداً للأمن في دولهم، هذا فضلاً عن تصادم «داعش» مع مصالح هذه الدول في المنطقة واستهداف هذه المصالح أحياناً، كما إن تصادم مصالح دولة الخلافة مع المصالح الاستراتيجية لإيران والسعودية ومصر وروسيا أمر لا يحتاج للكثير من الاستدلال والتوضيح.
وبناء عليه فكلما تراجعت وانحسرت الفوائد المرحلية التكتيكية لداعش، كلما تحولت من فرصة إلى تهديد بالنسبة للدول التي تعاملت او نظرت اليها على هذا الأساس، وبالتالي فإنَّ التصادم الاستراتيجي معها سيكبر وتشتد درجته. ولعل تشكيل تحالفات دولية وعربية لحربها والقضاء عليها خير دليل ما تقدم ذكره.

1. راجع (الأمين، حازم، العلاقة الموضوعية بين تركيا وداعش، (https://www.lhurra.com/01/477106) 24/1/2019).

8. لقد واجه «داعش» في تجربته كدولة إسلامية وخلافة مجموعة كبرى من التحديات الداخلية البنوية، وأبرزها كان توتر العلاقة بين مكونات الخليط غير المتجانس من مقاتليه وأمرائه (المهاجرون والمحليون). ويلحظ المتتبع للتغيرات في المسؤوليات، أثر الاصول المختلفة والمشارب المتعددة، فمن اعتماد المهاجرين عند الزرقاوي واستبعاد العراقيين عن المسؤوليات ثم إشراكهم بناء على نصيحة قادة القاعدة له بذلك، مروراً بالبغداديان وابعادهما للمهاجرين من المسؤوليات الأساسية، والاعتماد عليهم في العمليات الانتحارية والانغماسية الأمر الذي تحدث عنه العديد من المهاجرين، والمنشقين عن «داعش»، وصولاً إلى الصدامات الدموية المتواصلة بين الفئتين، وآخرها ما نشر عن محاولة لاغتيال أبو بكر البغدادي في الباغوز (آخر معاقل داعش) من قبل مجموعة من المهاجرين العرب، وفشل العملية.

9. إنَّ الاوضاع الأمنية غير المستقرة، لم تساعد «داعش» على بناء الجيل المحلي الذي أرادته أن يشكل على المدى الزمني المتوسط (5 إلى 10 سنوات) بديلاً عن المقاتلين الاجانب، والذين تراجع مستوى التحاقهم في السنوات الأخيرة من عمر «الدولة».
لقد أراد «داعش» أن يربّي ويؤهّل في معسكرات الاشبال والمدارس والمساجد جيلاً محلياً مشبعاً في عقله ووجدانه باستعدادات التضحية بالنفس والاندفاع للقتال بمهارة من أجل مشروعه في الخلافة والدفاع عنها والاستماتة لبقائها واستمرارها، وهو ما يمكن قرائته في الشعار الذي كرسه في أدبياته (باقية... وتتمدد).

10. لقد كسر «داعش» بإعلانه الخلافة (المفترض تمددها جغرافياً على كامل البلاد الإسلامية) -ملحق رقم 6- وبإلغاء حدود سايكس-بيكو بين العراق وسوريا، كسر آخر خيوط الصمت أو التساهل التي كانت عند البعض من الأنظمة الرسمية التي كانت تنظر إليها كفرصة توظف فيها بعض سياساتها الاقليمية والدولية، لذلك رأينا استفاقة دولية وعربية وإسلامية لنسج تحالفات دولية واقليمية لحربها والقضاء عليها، وهي بذلك عجّلت في استهداف الجميع واجتماعهم على ولقضاء عليه ولإنهاء مشروعه ميدانياً.

11. بناءً على كل ما تقدم يمكن القول إن دولة «داعش» حملت عوامل انهيارها في طيات قرار إنشائها وفي بنيتها الأيديولوجية، ومنذ عام 2014 توقعت بعض الدراسات عدم قدرتها على الاستمرار والبقاء2.
فمثلاً توقعت دراسة مجموعة الازمات الدولية في تقرير لها «أن صعود نجم داعش، الرابح الآخر من الاستقطاب السائد في البلاد، لن يدوم طويلاً على الأرجح، حيث صعّد التنظيم أنشطته وبات يلعب الآن دوراً أكبر من حجمه في الأنبار، لكن من غير المرجح أن يضرب جذوره عميقاً في المنطقة، لقد صعد نجمه نتيجة المأزق الذي وصل إليه السنة، لكن داعش لا يمتلك الوسائل التي تمكنها من تجاوز ذلك المأزق3».
إن ما حصل في عام 2018 ومطلع 2019 من إنحسار دراماتيكي لمناطق سيطرة «داعش» ووجوده بعد تحرير الموصل والرقة وبقية مناطق تواجده ومحاصرته في الباغوز ثم القضاء التام (جغرافيا) على دولة الخلافة المزعومة، يؤكد صحة الفرضية التي قدمها الباحث في مقدمة بحثه، وهي تشير إلى عدم امتلاك مشروع الدولة/الخلافة مقومات الحياة والاستمرار.

2. راجع (محمود عيسى: [داعش] يتحول إلى اللا مركزية، مقال في صحيفة الوطن القطرية، بتاريخ 2012.03.04).

3. راجع (تقرير مجموعة الازمات الدولية العراق: الصفقة الخاسرة في الفلوجة، 28 نيسان 2014م، تقرير مجموعة الازمات رقم 150، ص 14).


* (من أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي)