استند الكاتب محمد سيد رصاص في مقالته «عندما يقوم الشيوعيون ببناء الرأسمالية» («الأخبار» في 24/01/2019) إلى جملة من الاقتباسات من نصوص ماركس ولينين، من أهمّها: اقتباس من «بيان الحزب الشيوعي» لماركس وإنجلز مسبوقاً بذكر عنوان كتاب لينين «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية»، واقتباسان من «موضوعات نيسان – رسائل حول التكتيك». ولدى الرجوع إلى نصوص ماركس ولينين، نجد أن هذه الاقتباسات عمدت إلِى التلاعب بحرفيّة النص تلاعباً من شأنه أن يحرف الفكر الماركسي اللينيني عن مساره، ويُفضي إلى تشويهه. وفي ما يأتي تبيانٌ لما ذكرنا من خلال نموذجين.النموذج الأول:
يكتب سيد رصاص: «كان عنوان كتاب لينين الصادر في عام 1905 «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» وليس «الثورة الاشتراكية»، إذ كان لينين آنذاك متقيّداً بوصفة ماركس في «البيان الشيوعي» (1848) بأن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن توفّر مقدماتها سوى في البلدان الرأسمالية المتقدمة وبأن مهمّة الشيوعيين في البلدان المتخلّفة مثل ألمانيا، «في ألمانيا يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البورجوازية» [...] ولم يسع كما دعا المناشفة إلى تحالف مع البورجوازية «ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الإقطاعية العقارية» كما يحدّد ماركس في «البيان»».
نلاحظ أولاً كيف يُقدّم سيد رصاص، في قوله: «إن لينين كان ملتزماً بوصفة ماركس»، هذا الأخير وكأنه صاحب وصفات جاهزة للتطبيق، بينما النص الماركسي المؤسس كان همّه الأساس محاربة الفكر الذي يقدم وصفات للمستقبل، لسبب بسيط هو أن ذلك يتناقض مع الفهم المادي التاريخي الذي يرى في فكرة «الوصفة» تعليقاً للتاريخ. والحال فإن ماركس كان يصرّ على القول إنه لا يقدم «وصفات من أجل مطابخ المستقبل»(1). من جهة أخرى، توحي قراءة سيد رصاص بأن كتاب لينين الموسوم «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» لا يحمل همّ الثورة الاشتراكية (التي هي جوهر الماركسية ومن دونها لا أثر للماركسية ولا معنى). ونحن إن عدنا إلى كتاب لينين هذا وتحرّينا مضمونَه، لوجدنا أنه يتموضع في صلب النضال من أجل الاشتراكية؛ ففيه يدرس لينين الأحداث الثورية في روسيا 1905، ويعمل باستخدام الأدوات والمفاهيم الماركسية على وضع تكتيك ثوري مناسب للمرحلة، ففي سياق ردّه على بعض التيارات اليسارية التي تدعو إلى تطبيق برنامج الحد الأقصى فوراً (أي تحقيق الانقلاب الاشتراكي)، يكتب لينين: «فإن درجة التطور الاقتصادي في روسيا (الشرط الموضوعي) ودرجة الوعي والتنظيم عند الجماهير الغفيرة من البروليتاريا (الشرط الذاتي المرتبط ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه بالشرط الموضوعي) تجعلان من المستحيل تحرير الطبقة العاملة فوراً وكلياً»(2). لكن لينين يوضح مباشرة ليرفع كل لبس فيقول: «إننا لا نرجئه (الانقلاب الاشتراكي) إنما نخطو الخطوة الأولى نحوه»(3). أضف إلى ذلك أن كتاب لينين إنما يلتقط البذور الأولى لفكرة ضرورة قيادة البروليتاريا للثورتين البورجوازية والاشتراكية، ذلك أنه لمس ضعف البورجوازية الروسية وعدم قدرتها على إنجاز مهام الثورة البورجوازية. والحال أن هذه البذور الأولى تراكمت حتى وصلت إلى نضجها الكامل بفضل تفكيك لينين للرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية.
بالعودة إلى النص الأصلي لاقتباس البيان الشيوعي، نرى -بخلاف ما خلص إليه صاحب المقالة- انسجاماً بين ماركسية لينين وقراءة ماركس الثورية. يكتب ماركس: «وفي ألمانيا يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البورجوازية ما دامت تناضل هذه البورجوازية نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الإقطاعية العقارية، وضد البورجوازية الصغيرة الرجعية».(4) أي أن الاتفاق في النضال بين الحزب الشيوعي والبورجوازية مشروطٌ بالنضال الثوري لهذه الأخيرة في سبيل إنجاز الثورة الديموقراطية البورجوازية. بمعنى آخر، يسقط هذا الاتفاق في حال كانت هذه البورجوازية ضعيفة غير قادرة على أداء مهمتها. لكن سيد رصاص، باجتزائه هذا الاقتباس (حذف العبارة: «ما دامت تناضل...ثورياً»)، أسقط هذا الاشتراط وعمّم الاتّفاق.
لينين لم يكن معنيّاً بالقفز فوق الثورة البورجوازية، بل هو معني بمن يقودها


لا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أن القول اللينيني بعجز البورجوازية وانحطاطها الذي ترسّخ مع دخول الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية هو امتداد لتحليل وقراءة ماركس في كتابه «النضال الطبقي في فرنسا 1848 - 1850» حيث رصد فيه بداية انحطاط الطبقة البورجوازية على المستويين السياسي والأيديولوجي، يكتب ماركس مثلاً: «إن البورجوازية [...] تعترف على المكشوف قائلة: «إن ديكتاتوريتنا قد قامت حتى الآن بناء على إرادة الشعب، ولكنها ستتوطد من الآن وصاعداً ضد إرادة الشعب.»»(5) وهذا ما بيّنه على مستوى الأيديولوجيا الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش في كتابه «تحطيم العقل»، حيث نقرأ: «يمكن القول بوجه عام أن انحدار الأيديولوجيا البورجوازية ينبثق من نهاية ثورة 1848».(6)
النموذج الثاني:
يكتب سيد رصاص: «عندما عاد لينين إلى روسيا في نيسان 1917، قدّم في كرّاس موضوعات نيسان ما يتجاوز كتاب 1905، إذ قال: «إن ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الثورية الديموقراطية قد تحققت في الثورة الروسية (شباط 1917)، إن هذه الصيغة قد شاخت»، داعياً إلى «القفز من فوق الثورة البورجوازية الديموقراطية غير المنتهية ــــ والتي لا تزال مشوبة بميزان الحركة الفلاحية ــــ إلى الثورة الاشتراكية».
الاقتباسان هنا فيهما تشويه للنص الأصلي، ولكننا سنقتصر على الثاني لأنه أكثر أهمية في توضيح آلية التلاعب. فالكاتب يشوّه النص ليقول بأن لينين دعا إلى القفز فوق الثورة البورجوازية الديموقراطية غير المنتهية إلى الثورة الاشتراكية. لكن بالعودة إلى كراس «موضوعات نيسان –رسائل حول التكتيك»، يتبيّن لنا أن لينين لم يكن معنيّاً بالقفز فوق الثورة البورجوازية، بل هو معني بمن يقود الثورة البورجوازية والمهام الديمقراطية البورجوازية. ففي سنة 1905 طرح صيغة ائتلافية بين البورجوازية الإقطاعية النسب والبورجوازية الصغيرة (بما فيهم الفلاحون) والبروليتاريا التي كانت ضعيفة نسبياً على المستويين التنظيمي والسياسي. لكنّ الأمر تبدّل مع تجربة حكومة كيرنسكي 1917، حيث بانت حقيقة البورجوازية ذات المزاج الإقطاعي ورجعيتها ومحافظتها على الوضع القائم، وعدائها للفلاحين وللإصلاح الزراعي بما يخص ملكية الأرض. لهذا قرر لينين في هذا الوضع الثوري، ومع الجاهزية السياسية والتنظيمية للبلاشفة ونمو سوفيتات العمال والجنود والفلاحين الفقراء، طرحَ مسألة هيمنة وقيادة البروليتاريا للثورة الديمقراطية البورجوازية بالتحالف مع الفلاحين، وبخاصة الفقراء منهم. لا سيما أن حكومة كيرنسكي البورجوازية الإقطاعية أظهرت عجزاً عن السير بالثورة الديمقراطية البورجوازية ولو خطوة إلى الأمام بخصوص الأرض والسلم والخبز. إنّ فحوى الفكرة اللينينية – التي غابت عن مقالة رصاص – هي أن قيادة البروليتاريا الثورةَ الديمقراطية تُشكِّل ضمانة إنجازها الكامل والسير بها نحو التخوم الاشتراكية، وأنّ هذه القيادة هي ضمانة الثورتين، البورجوازية والاشتراكية، بينما لا تُفضي قيادة البورجوازية الإقطاعية لها سوى إلى إحباطها كثورة بورجوازية.
بالعودة إلى النص الأصلي للاقتباس الثاني، يكتب لينين: «ألا نتعرّض لخطر الوقوع في الذاتية، في رغبة «القفز» من فوق الثورة البورجوازية الديموقراطية، غير المنتهية -والتي لا تزال مشوبة بميزات الحركة الفلاحية- إلى الثورة الاشتراكية؟»(7). إذاً كما هو واضح فإن لينين لا يدعو إلى القفز إلى الثورة الاشتراكية – كما كتب رصاص – إنما يطرح سؤالاً يفترض أن خصومه سيجابهونه به، ويجيب لينين عن هذا السؤال بالفعل في الكراس. يكتب لينين في سياق توضيح أخطاء أحد المعترضين البلاشفة كامينيف، فيقول: «وهنا أصلُ إلى الخطأ الثاني في محاكمة الرفيق كامينيف المذكورة أعلاه. إنه ينتقدني لكوني «أعوّل» في مخططي على تحول هذه الثورة (البورجوازية الديمقراطية) فوراً إلى ثورة اشتراكية». هذا غير صحيح. فأنا لا «أعوّل» على «تحوّل» ثورتنا «فوراً» إلى ثورة اشتراكية، وليس هذا وحسب. بل أحذّر أيضاً من هذا وأعلن صراحة في الموضوعة 8 (يقصد لينين موضوعات نيسان) مهمتنا المباشرة لا «فرض» الاشتراكية».(8) جليّ هنا أن سيد رصاص يُعيد إنتاج خطأ كامينيف باختياره تحريف الاقتباس مرة أخرى.
إن ما يُفسِّر هذه القراءة الاعتباطية للنص اللينيني في مقالة سيد رصاص، هو رغبة صاحب المقالة في إظهار انحراف قراءة لينين عن نظرية ماركس، وبالتالي فإنه يجب الفصل بين اللينينية والماركسية. غير أن هذه الاستنتاجات إن هي إلا نتيجة القراءة المتسرّعة للنص الماركسي اللينيني الغني والمرتبط بسياقات اجتماعية وسياسية معقدة، لا نتيجة النص نفسه.

* كاتب سوري

مراجع
1- ماركس، كارل، رأس المال، ج1، ترجمة: فهد كم نقش، دار التقدم، موسكو، ص 24.
2- لينين، المختارات، المجلد 2، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ص 415.
3- المرجع السابق، ص 415.
4- ماركس؛ إنجلز، مختارات – ج 1. دار التقدم، موسكو، ص 94، 95.
5- ماركس، كارل، النضال الطبقي في فرنسا، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ص 74.
6- لوكاتش، جورج، تحطيم العقل، ج 2، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت، ص 93.
7- لينين، المختارات، المجلد 6، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ص 352.
8- المرجع السابق، ص 357.