صباح أمس، أفاق العالم على خبر استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة (مواليد القدس 1971 ـــــ 2022) بعد إصابتها برصاصة في الرأس، خلال تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين في الضفة الغربية. بذلك، ختمت مراسلة شبكة «الجزيرة» مسيرتها المهنية بالدم بعدما كانت صوت وصورة فلسطين إلى العالم منذ التسعينيات. وبينما توالت ردود الأفعال والبيانات العربية والغربية الشاجبة لـ «جريمة مكتملة الأركان»، انبرت سلطات الاحتلال في تمييع القضية عبر الزعم بأنّ أبو عاقلة قضت بنيران فلسطينية، فيما أكّد تقرير «معهد الطب العدلي» في نابلس أنّ أبو عاقلة أصيبت برصاصة متفجرة في الرأس، تسبّبت في مقتلها على الفور (راجع التقارير في مكان آخر من الصفحة). كل فلسطين بكت ابنتها أمس. ودّعوها بالمئات في الضفة الغربية، وصلّوا عليها في كنيسة «دير اللاتين» في جنين، وحملها المقاومون، متدثرةً بعلم فلسطين كما يليق بها، قبل أن يقام لها مهرجان وداعي في مكاتب الشبكة في رام الله، لتوارى بعد غد تراب القدس. «ليس سهلاً أن أغيّر الواقع، لكني على الأقل، كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم»، بهذه العبارة، لخّصت أبو عاقلة تجربتها الصحافية التي واصلتها من دون انقطاع طوال 25 عاماً. هي شيرين نصري أبو عاقلة، الصحافية التي صبغت الأحداث الوطنية، بأسلوبٍ ابتدعته بنفسها، قدمته بصوتها الذي تخالطه بحّة حنونة، وبلغتها البسيطة، وملامحها الهادئة، لتخرج كل قطعة صحافية أنتجتها، كحكاية تترك حيزاً في وعي من يشاهدها.
لم يكن مفاجئاً أن تحظى ابنة القدس، بكل الدموع التي ذرفت لرحيلها. هي لن تصحوَ اليوم من كفنها تلبيةً لصراخ زملائها الذين هتفوا: «إصحي... إصحي».
ابنة الـ 51 عاماً، هي ابنة كل البيوت الفلسطينية، دخلتها وهي في منتصف العشرين من عمرها. هي ابنة الشارع التي لم تكبر في عيون جيل الانتفاضة، ابنة المخيمات التي بكاها الآلاف أمس، حملها المقاومون على أكتافهم، لأنّهم شعروا طويلاً أنها كانت ظهيرهم على الشاشة، هتف لأجلها العجائز: «من جنين الأبية، شيرين شمعة مضوية» لأنها اختارت المخيم بيتاً لها، حين يأتي الغرباء لاقتحامه.
ابنة قرية بيت حنينا، التي ولدت وتربت في القدس، من أسرة تنحدر من مدينة بيت لحم (جنوب الضفة الغربية المحتلة)، أنهت دراستها الثانوية في «مدرسة الراهبات الوردية». منذ 1991، استجابت لشغفها فتحولت من دراسة الهندسة المعمارية في «جامعة العلوم والتكنولوجيا» في الأردن، إلى التخصص في قسم الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك الأردنية أيضاً. عقب تخرجها، عادت إلى الأراضي المحتلة، لتتولى العمل مع جهات عدة، بدأتها في «وكالة الغوث»، ثم «صوت فلسطين»، ومنه إلى فضائية «عمان»، ثم إذاعة «مونت كارلو»، قبل أن تصبح عام 1997مراسلة أولى لـ «الجزيرة» لغاية استشهادها أمس. «تتبع شيرين كل دبابة، وتلحق كل طلقة» يقول زملاؤها الذين لم يستطيعوا أن يكملوا أياً من عباراتهم. نذرت عمرها للمهنة التي أحبتها. مهنة لم تكن بالنسبة إليها مصدر رزق، بقدر ما كانت دوراً وطنياً وإنسانياً، ورسالة حياة.
في طاقم «الجزيرة»، اصطلحوا على تسميتها بـ «المراسلة الأولى» ليس فقط بسبب حضورها، بل لأنّها ابتدعت لنفسها أسلوباً صحافياً يسبق الإنتاج المصور. يشير زملاؤها إلى أن شيرين، كانت تبحث عن أصعب الطرق لإنتاج موادها التلفزيونية. لم تكن ترسل فريقها إلى الميدان، ثم تذهب في آخر لحظات العمل لتسجيل «ستاند الخاتمة»، بل كانت تعسكر في المكان الذي يتوقع أن يشهد حدثاً. تجلس بين الناس الذين قالت إنّها اختارت العمل الصحافي لتكون «قريبةً» منهم. ترابط لساعات على عتبات القدس، أو تمشي في مسيرة بالقرب من الجدار، مع «الإنسان» في مواجهة الغاز المسيل للدموع، وأمام الدبابات التي يتعمد طواقمها مضايقتها، بتهمة «تصوير مناطق أمنية» وفق ما قالت في إحدى المقابلات، وفي الجهة التي تتجه إليها طلقات البنادق... من هناك ترصد الحكاية من أولها، تستمع إلى حديث أبطال تقريرها، تحاول الغوص في مكنونات نفوسهم... من تلك الهواجس والمخاوف والأمنيات، تكتب نص تقريرها.
ترابط لساعات على عتبات القدس، أو تمشي في مسيرة بالقرب من الجدار مع «الإنسان» في مواجهة الغاز المسيل للدموع


تجربة شيرين المهنية الغزيرة، نقلتها إلى صدارة المشهد الإعلامي ليس في «الجزيرة» فحسب، إنما في الوسط الصحافي الفلسطيني كلّه. ومن المخيمات وتغطية الاجتياح الإسرائيلي للضفة، وحصار الرئيس أبو عمار، انتقلت «نجمة فلسطين» إلى عدد من العواصم العربية، من مصر والسودان، إلى الأمم المتحدة الولايات المتحدة لنقل الصورة. حياة صاخبة اختارتها ابنة «بيت حنينا» رغم هدوئها الأخاذ. عاشت كما تحبّ أن تعيش، فلسطينية خالصة، تقضي حياتها في القدس... وتستشهد في جنين.

* تقام مراسم وداع الشهيدة غداً الجمعة في «كنيسة الروم الكاثوليك» في القدس، قبل أن توارى الثرى في «مقبرة صهيون».