أُثير غبار كثير في الإعلام الغربي خلال السنوات الثلاث الأخيرة حول جهود مشبوهة بُذلت بغاية التأثير على نتائج استفتاء «بريكست» لتحديد علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، وأيضاً الانتخابات الأميركية 2016 التي فاز بها دونالد ترامب، مع محاولاتٍ للربط بينهما. ومن الواضح أن ذلك الغبار المفتعل جاء في إطار تبرير صعود التيارات الشعبوية الفاشية على حساب النخب الليبراليّة الحاكمة في أكثر من بلد غربي. العدوّ الجاهز دائماً لتحميله التهمة كان روسيا بوصفها وريثة الاتحاد السوفياتي، العدو الكلاسيكي للغرب خلال الحرب الباردة، لا سيّما أنّ سمعة «الهاكرز» الرّوس قد رُبطت دائماً بفنون السّحر الأسود على الفضاء السيبراني. وهكذا رُسمت صورة للديمقراطيّة الغربيّة وهي ضحيّة تنهشها إمبراطوريّة الشر الروسيّة التي تريد أن تستهدف منظومات الغرب القيميّة وخداع الناخبين. في ظلّ تلك الأجواء، ظهر فجأة اسم شركة بريطانيّة – أميركيّة خاصّة لم تكن معروفة للعموم تدعى «كامبرديج أناليتيكا»، بوصفها العقدة المفقودة في شبكة غامضة وظّفت تقنيات متقدّمة للإفادة من كم المعلومات الهائل الذي يوفره مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي عن أنفسهم لتحليل السياقات الانتخابيّة، ومن ثمّ شنّ هجوم دعائي مبرمج بدقة من خلال المواقع ذاتها (والحالة هنا تعلقت تحديداً بتطبيق فيسبوك) على مجموعات سكانيّة حُدّدت وفق خوارزميّات معينة بوصفها «قابلة للإقناع»، ويمكن التأثير عليها لتبني سلوك سياسي يخدم جهة دون أخرى. ويبدو أن خلافات شخصية محض بين الرؤوس المدبّرة في الشركة المذكورة، دفعت بعضهم للخروج عن النص، والكشف عن تورّطها المريب في التأثير على المسرحيات الانتخابية في بلاد العالم الثالث منذ أكثر من 20 عاماً (بمشاركة خبراء إسرائيليين)، من بينها العراق، أفغانستان، ترينيداد وتوباغو، الأرجنتين، البرازيل، ماليزيا، غانا، نيجيريا كما أوروبا الشرقيّة... من خلال استخدام المعلومات لتقديم رشاوى انتخابيّة، وتوريط شخصيات مستهدفة بعلاقات مع بائعات هوى أوكرانيّات، واختراق البريد الإلكتروني والاتصالات وتنفيذ برامج بروباغندا وحرب سيكولوجيّة مفصّلة على قياس مجموعات محددة، قبل توظيف تقنياتها لاحقاً قريباً من المنزل، أي في انتخابات واستفتاءات إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدّة. وقد عُرف في ما بعد أن تلك الخوارزميّات التي تصنّفها الحكومة البريطانيّة بمثابة أسلحة دمار شامل ويمُنع تصديرها بدون إذن مستوف، مستلّة أساساً من تقنيات تستخدمها SCL الشركة الأم لـ «أناليتيكا» والمقاول العسكري المعروف بتقديم خدمات الحرب السيكولوجية المتقدّمة للجيش البريطاني والأميركي ولحلف الناتو وللمخابرات المركزيّة الأميريّة ولأنظمة فاسدة في الشرق الأوسط.تبدّى حينها أن «أناليتيكا» وظّفت خوارزميّات متقدمّة لتحليل معلومات يوفرها مستخدمو فيسبوك (وتويتر وغيرهما) متطوعون عن أنفسهم، لأغراض تصنيف جمهور المقترعين على بريكست وفق 5000 نقطة مرجعيّة مختارة، تم تحديد مجموعة منهم بوصفها هدفاً لحملة دعائيّة مكثفّة مدفوعة الثمن (لفيسبوك) على «التايملاين» الشخصي لكل منهم، بغرض دفعهم لتأييد حملة خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي. وبحسب تقارير نشرتها «ذي غارديان» و«نيويورك تايمز»، فقد استخدمت «أناليتيكا» التقنيّة ذاتها في التأثير على مجموعة صغيرة نسبياً من الناخبين الأميركيين في عدد من الولايات المتأرجحة كي يمنحوا أصواتهم لترامب، وبالتالي حسم النتيجة الكلية لمصلحته. حكاية «أناليتيكا» تمّ كيّها سريعاً من خلال إعلان الشركة إفلاسها وحلّ نفسها بفرعيها البريطانيّ والأميركي، ولاحقاً تحويل مديرها التنفيذي وبعض طاقمها إلى لجان برلمانيّة ـ غير تقنيّة ـ للتحقيق في كلّ من بريطانيا والولايات المتحدة. وانتهى الأمر إلى فرض غرامات ماليّة على فايسبوك، من دون اتخاذ إجراءات جذريّة لحماية خصوصيات مستخدمي الإنترنت، ولا الكشف ولو تلميحاً عن نظام المراقبة المعولمة الهائل الذي تديره المخابرات الأميركيّة للتجسس عليهم، ومن ثمّ استهدافهم بدعاية فرديّة مركّزة من خلال مواقع التواصل.
يحاول وثائقي «الاختراق العظيم» ( The Great Hack ــ نتفليكس، 2019) تحويل تلك الفضيحة إلى ما يشبه سردية مثيرة كما في أفلام الجاسوسيّة الأميركية بالاعتماد على شهادات من كارول كادوالدار، الصحافيّة في «ذي غارديان» التي نشرت المعلومات عن «أناليتيكا» للمرة الأولى، وكريستوفر وإيلي المنشق عن الشركة الذي حاول عبثاً تأسيس شركة منافسة قبل أن يقرر فضح العمليّة، وبريتاني كيسر رئيسة إدارة تطوير الأعمال في الشركة التي أصيبت بأزمة ضمير على حدّ زعمها، كما جوليان ويتلاند مدير العمليات في «أناليتيكا» المنحلّة. تقدّم الشهادات متلاحقة في موازاة قصّة دافيد كارول أستاذ الميديا الأميركي الذي لاحق «أناليتيكا» قضائياً من دون طائل بغرض معرفة المعلومات الشخصية التي تمتلكها الشركة عنه.



لكن نظرة متفحصة لمحتوى الوثائقيّ، والخلاصات التي يراد لمشاهده استخلاصها تظهر أن الفيلم لا يعدو كونه محاولة مدروسة لإدارة الفضيحة واستخدامها كقنبلة دخانيّة لصرف أنظار الجمهور عن حقيقة منظومة الرقابة الأميركية الهائلة التي باتت تتحكم بالمجموعة البشريّة برمتها من خلال الإنترنت. وإن أخذت شكل مواقع خدمات اتصالات، وتواصل اجتماعي ومحركات بحث مجانيّة، إلا أنها تُراكم تلك المعلومات الفرديّة وتستخدمها بالإفادة من خوارزميات معقّدة لتنفيذ أجندات سياسيّة غايتها إدامة الهيمنة على الشعوب. لذلك يلجأ الشريط إلى تلميع دور الصحافة ــــ الغارقة حتى أذنيها في خدمة المنظومة ذاتها، لا سيّما «ذي غارديان» التي تسببت في كشف مصادر جوليان أسانج للمخابرات الأميركيّة والبرلمانات الغربية ــــ التي لعبت أمام العموم دور الزوج المخدوع رغم معرفتها الدقيقة بكلّ ما يجري وتغطيتها المستمرة لمنظومات التجسس المتقاطعة، وحتى تلميع الأفراد المتورطين بوصفهم أبطالاً استيقظت ضمائرهم، أو على الأقل مجرّد ضحايا دفعهم مجرد الجشع للتربح من معلومات متوفرة بسهولة لمن يمتلك الأموال الكافية، ناهيك بشخصنة الأمور بوصفها هفوات فرديّة لأشخاص قلة ضالين، والتقليل المتعمّد من تأثير تلك الممارسات بوصفها استخدمت ضدّ عينات منتقاة من الجمهور فقط، وبناء ثقة موهومة بالتحقيقات الرسميّة التي تجريها السلطات الحكوميّة والفيدراليّة لكبح جماح أولئك الرأسماليين الطمّاعين، كأنّ هؤلاء مجرد واجهات مدنيّة لأدوات الإمبراطوريّة الأميركية. تبلغ ذروة النّفاق في الفيلم عند اقتطاع جزء من الرجاء الحار الشديد السذاجة الذي تقدمت به الصحافيّة كادوالدار على منصة TED لأرباب صناعة التكنولوجيا الأميركيّة في فايسبوك وغوغل وتويتر و«آبل» و«أمازون» و«فيزا» متوسلة إليهم بأن يتفضلوا و«يسألوا أنفسهم كيف يريد أن يذكرهم التاريخ»!
في الحقيقة، لم يكن أحد يتوقّع شيئاً مختلفاً من نتفليكس، التي هي نفسها جزء لا يتجزأ من منظومة رأسماليّة الرقابة الشاملة هذه، ولا من صانعي الفيلم الثنائي كريم عامر وجيهان نجيم اللذين سبق أن اشتغلا على فيلم «الميدان» (The Square/ نتفليكس، 2013) وقدّما سرديّة مؤمركة ساذجة عن «ثورة يناير» 2011 المزعومة في مصر. على أن «الاختراق العظيم» يقدّم صورة جيّدة عن كذبة «الديمقراطيّة» لمن بقي يشتريها إلى يومنا، وعنجهيّة الطّبقات الحاكمة في تعاملها مع الشّعوب المغفّلة، ونظرة الازدراء والاستهتار التي ينظر بها هؤلاء المتعجرفون المرفهون إلى مواطنيهم. وقد يدفع البعض للتّفكير على نحو أعمق في مسائل عجيبة مثل «الربيع العربي»، وظهور «داعش»، والانقسام الشيعيّ – السنيّ، والتطبيع العلنيّ وغيرها. وربّما كذلك حثّ المتورطين في لعبة مواقع التواصل الاجتماعي إلى إعادة النظر في الكمّ الهائل من المعلومات التي يتطوعون بتقديمها عن طيب خاطر، لتتجمع في ثقب أميركي أسود هائل مكرّس لخدمة أغراض كثيرين متوارين، ليس أقلّهم «الأخ الأكبر» شخصيّاً. «كامبرديج أناليتيكا» هباءة في خضمّ ذاك الثقب الأسود.