عن منطق «الممانعة والممانعين الجدد»: في ذمّ العقلانية الجاهلة والمثقف المحايد
لربّما هو أمر جيّد اليوم أن تكون فكرة واحدة كافيةً حتّى تتمايز المواقف بين الأفراد بشكل شمولي. يكفي أن تكون مع المقاومة الآن أو أن تكون ضدّها حتّى يتضح موقفك من العالم كلّه. تختزل هذه المعادلة القدرة لا على التفرّس في الوجوه والملامح، إنّما القدرة على التفرّس في الرؤى والمواقف. ففي ما يشبه الرتابة والملل، لا تنفكّ تخرج عند أيّ أزمة طارئة في البلاد كلّ الأنياب والأقلام بفكرة واحدة لا شريك لها في خواء مضمونها إلا خواء من يتعامى ويتبنّاها باعتبارها الحلّ السحري لكلّ ما من شأنه أن يُعافي البلاد والعباد. مضمون هذه الفكرة كالآتي: إنّ مقاومة إسرائيل يعني التسبّب بالخراب والدمار والانهيار. ومن أجل الحثّ على تجذير زيف هذه الفكرة في وعي الشعوب، فلن تجد صعوبة في ملاحظة أنّ كلّ ما من شأنه أن يخدمها يتمّ توظيفه بكلّ الأشكال والأساليب: في السياسة والمجتمع والإعلام والفنّ والثقافة، عند الأحزاب والمنصّات والمنظّمات، وليس انتهاءً بوسائل التواصل الاجتماعي. وأخذاً بذلك، فلن يكون غريباً أن يكتب جان قصير مقالاً في موقع «ميغافون» عنوانه «الممانعون والممانعون الجدد» يساوي فيه بين الجلّاد والضحية، بين الساكت عن الحقّ والصارخ في وجهه، محمّلاً «حزب الله» مسؤولية ما حدث من «كوارث» في البلاد منذ حرب 2006 إلى اليوم.
عقلانية الدم في زمن الحرب
يعلّمنا الدم حين يفيض ويُسفك أثناء الحروب أنّه ليس كلّ عقل يمتلك القدرة على أن يكون حقيقيّاً، ومنطلق هذا الرأي كامنٌ في أنّ العدوّ حين يكون بهذا الوضوح للقريب والبعيد وتختار مهادنته، فإنّ منطق التعاطي مع مسألة بهذا الحجم يقتضي حينها النظر إلى المبادئ لا المظاهر، وإلا يصبح ادّعاء العقلانية في زمن الحرب كخيار سلمي في مقابل عدم الإنجرار وراء اختيارات دموية تجلب الويلات والأسى انحرافاً وتزييفاً متعمّداً للعقل والأخلاق على حدّ سواء. يحاول جان قصير في مقالته أن يرشدنا إلى الصواب. بالنسبة إليه، إنّ الخيار العقلاني الوحيد الذي يجب اعتناقه الآن في صراعنا مع إسرائيل هو تجنّب صراعنا مع إسرائيل ذاتها، لأنّ الانحياز إلى الخيارات الدموية والتماهي بالمواقف مع «مغامرات» حزب الله الكارثية ضدّ إسرائيل، هو الذي جلب لنا الويلات والتدمير والتهجير والنكبات. حقّاً عزيزي؟ هل يعني ذلك أنّ كلفة مواجهة إسرائيل هي أشدّ وطأة علينا من عدمها وأن مقاومتها أشبه بغريزة تنحو إلى الانتحار في منطق «مغامرات الدم»؟ ألم يخطر في حسابات عقلانية بعض المثقّفين أنّه عندما تكون على حافّة «أن تكون أو لا تكون» أمام حرب وجوديّة ضدّ عدو يريد أن يستبيح وجودك أنّ الخيار العقلاني الوحيد أمام هذه الحالة هو بذل الدماء كثمن وجوديّ وكخيار
حرّ تحتّمه إرادة البقاء؟
ثمّة ما هو مشترك وخفيّ بين استحضار العقلانية الاستسلامية مقابل خيار حزب الله «الكارثي والدموي» المستند عاطفياً حسب الكاتب إلى «مظلومية الشيعة» أو غياب الدولة عن «مجتمعاتهم»، وبين نقد مهدي عامل لاستشراق ادوارد سعيد في كتابه «هل العقل للغرب والقلب للشرق». إنّ الخيط الناظم بين الثنائيتين هو أنّ ثقافة مواجهة الغرب «العقلاني والتنويري» وتمثّلاته الإسرائيلية والعربية المطبّعة لا تستند في ما هي تقاوم، على معطيات حقيقيّة لطبيعة الصراع ولا لأحقّيته التاريخية والمادّية، وأنّ ملكَة العقل لدى المقاومة لا تستطيع حساب الكلفة بشكل عقلاني فائق، وأقصى إمكاناتها هي أن تكون بيدقاً لتحقيق مصالح الآخرين ومآربهم. هذا يعني أنّ الفكر الذي يستوي عنده ظاهر الشيء والشيء نفسه ويأخذ بواحدية الثقافة بغية إلغاء التناقض في التاريخ والصراعات، هو فكرٌ أقلّ ما يُقال فيه إنّه يرى بعين الفكر المسيطر. مردّ ذلك أنّ المنحى الاستشراقي المخبوء عند بعض المثقّفين يشبه نموذج «عبيد المنزل» الذي يأبى على نفسه أن يلتحم مع شعبه وقضاياه، ويرى في سيّده الهالة الجاذبة لدناءته. هنا تصبح إسرائيل عند السياديين حالةً طبيعية، ووجودها ذاته غير منبثق من فكرة الاستعمار، وبالتالي لم تعد حالة احتلالية فيما تكون المقاومة، لأنّها مقاومة -ولا شيء آخر لا طائفيّاً ولا مجتمعيّاً- هي علّة انهياراتنا ومأساتنا.
يفتح ذلك نقاشاً آخر حول ثنائية التطبيع والمقاومة. أيّهما أجدر بالاختيار: نموذج دبي ومواسم الرياض مثلاً أو نموذج غزّة وجنوب لبنان؟ يأتي هذا السؤال في سياق من يدّعي أنّه يفكّر بعقلانية، خاصّة «تحت النار» من مثقّفين وإعلاميين ينتقدون المقاومة بحجّة أنّ خياراتها الآن تأتي في سياقات ليست مواتية مع سياقات المرحلة. عند هؤلاء دوماً المرحلة هي التي تحدّد. قد نتّفق مع ذلك سيراً على المثل السائد بأنّ «لكلّ ساعة ملائكتها» وأنّ حركة التاريخ هي التي تحدّد المسار والأساليب والنظرية. ولكن ماذا يقصدون هم «بالمرحلة»؟ هل نديم قطيش هو الذي يحدّدها مثلاً ويطرح خياراتنا العقلانية أثناءها؟ هل الإعلام الإبراهيمي هو صوت «المرحلة»؟ هل التطبيع والخيانة هما الوجهة الصحيحة لقاطرة المرحلة المزعومة؟
من المؤكّد أنّ تاريخ صراعنا مع إسرائيل ليس انتقائيّاً ولا يمكن له أن يكون كذلك. إنّ طبيعة هذا الصراع كلّية وشاملة وتنسحب على كلّ المجالات وفي كلّ «المراحل»، وفي العقل والعاطفة، وفي الثقافة والسياسة. المقاومة هي تكثيف لكلّ ذلك، هي اليد المبدعة والكلمة الفاعلة. ولأجل ذلك، ليس كلّ كلام انهزامي عن ضروارت المرحلة يؤخذ به، إذ كثيراً ما طرحت المبادئ الصحيحة استنتاجات خاطئة. فبمجرّد أنّ طبّالي التطبيع يصيحون علينا ونحن نُقتل ونباد، تكون «المرحلة» مرحلة مواجهة وتحدٍّ. هنا تحديداً تصبح المقاومة هي الخيار العقلاني الوحيد للفعل في حركة التاريخ وفي مجرى الصراع كلّه لأنّ الحقيقة الأكثر جلاءً الآن هي أنّ استمرار الصراع من عدمه مرتبط بمدى استعداد القوى الاجتماعية الموجودة في كلّ بلد لتقديم التضحيات.
هل قلت «يسار»؟
بأسلوب مخاتل، يذكر كاتب «ميغافون » أنّ قوى اليسار التقدّمي انتفى أيّ دور لها بعد حرب 2006. يأتي ذلك في سياق موارب وفي إشارة متوارية إلى أنّ «حزب الله » طمس دور القوى اليسارية وغيّبها عن المشهد. ولكن السؤال ليس لماذا غاب اليسار، بل من هو ذاك اليسار الذي لم يعد له أي دور يلعبه مذّاك؟ غريب ألّا يلاحظ أنّ اليسار هو الذي انزلق وخرج منذ أن اعتاد مذ عهد ظاهرة الحريرية إلى اليوم، تغيير جهته، ووجهته، وانزلق إلى مواقع الفكر المسيطر. ومن الغرابة ألّا يلاحظ التقارب في التوجهات بينه وبين اليساريين الذين ينتقدهم، وهو تقارب دقيق وجدّي إزاء عدد من الأحداث الحساسة. من الموقف من الربيع العربي والموقف من دور المقاومة الإسلامية في الصراع مع إسرائيل (تغصّ عدد من التحليلات السياسية الجوفاء لبعض مثقّفي اليسار باستنكارهم لظاهرة أسلمة النضال) إلى الثرثرات حول النظام اللبناني وتحميل «حزب الله » جلّ المسوؤلية عن «تغطية» الفاسدين وليس انتهاءً بالتنظير لـ17 تشرين. ولنسلّم جدلاً بما قاله جان قصير، فإنّ حديثه عن «ما بعد» 2006 يتطلّب بالضرورة الحديث عن فترة 2006 وما سبقها. هل بالإمكان الاستدلال عن دور القوى اليسارية حينذاك؟ ثمّ ما الغاية حقّاً من الإصرار على أنّ حرب تموز كانت تتويجاً لانتهاء أي دور يمكن أن يكون لليسار سوى تعميق الفجوة الحاصلة بين المقاومة من جهة وبين القوى اليسارية من جهة ثانية؟ أليس ذلك احتيالاً ومخادعةً واضحة وتأييداً لسردية اليسار الرسمي بأنّ «حزب الله » احتكر مقاومة إسرائيل لوحده؟
في كتابه «أخبار الحمقى والمغفّلين» طرفة مفادها الآتي: «قيل لعبدالله بن مسعود القاضي، تجيز شهادة العفيف التقيّ الأحمق؟ قال: لا وسأريكم هذا، ادعُ يا غلام أبا الورد، حاجبي فلمّا أتاه قال: اخرج فانظر ما الريح، فخرج ثمّ رجع فقال: شمال يشوبها جنوب. فقال: كيف أتروني أجيز مثل هذا؟» إنّها ذو دلالة لسببين. أولاً لما تحاول قوله، وثانياً لأنّ ابن الجوزي ذكرها حصراً في باب أخبار الحمقى من الكتّاب والحجّاب. وما استعراضها الآن إلّا لأنّ اليسار المزعوم أصبح مشوباً باليمين بعدما أعلن انكفاءه حيناً وانتهازيته أحياناً، ولأنّ من يحاول قول عكس ذلك ورمى اللوم على المقاومة، عليه أن يقدّم شهادة بيّنة وصالحة.
يبقى أن نُدلي بالواقع كما هو بعيداً من بريق الأيديولوجيا والتنظير، واحتكاماً لصوابية القضيّة وعدالة الانحياز العقلاني نحوها. إنّ الميل إلى المقاومة لم يعد يكفيه ضيق الأيديولوجيا المؤطّرة بالشوفانيات. ولذلك، من الصحيح أنّه ليس هناك يساراً حقيقيأ وتقدّمياً الآن، يستطيع أن ينظّر للصراع ويحدّد موقعه منه ويجابه في الضوء، إلّا أنّ الإيغال في الحديث عن ذلك لا ينبغي له أن يأخذنا بعيداً من وجود «يساريين فرادى» لا يجمعهم مع أيديولوجية «حزب الله » العقائدية شيء، ولا يملكون أي سبب لكي يسايروه فيما الجميع يشحذ سكاكينه عليه، ولا يبنون مواقفهم تحت مظلّة الوفاء أو الخلاص الفردي أو المصلحة. هؤلاء لا ينخرطون في مواقفهم التقدّمية إلّا من منطلق عقلاني بحت. ولا يقيّمون الصراع الدائر حسب ما يمليه «التمويل»، بحجة أنّ عقلانيتهم هي في حالة نقدية عالية، تقرأ التاريخ وفقاً للخيارات الإستراتيجية الحقيقية التي تحتّم عليهم حسب منطق العقل، والانخراط على حجم الصراع ككلّ وليس على حجم المعركة. هنا تحديداً تتساوى عقلانية «البقّاقين» مع براغماتية «المنافقين». ذلك أنّ الاستعلاء على الكارثة والنظر إلى المقاومة في هذا الوقت بالتحديد على أنّها ليست فقط مخطئة في أنِ اختارت أسوأ الاحتمالات، بل في اعتبار علّة وجودها من الأساس «خطيئة» بحدّ ذاته، فهو إن لم يكن خيانة، ليس للمقاومة كحركة تحرّر فقط، بل للمحكّ الإنساني برمّته، وهو بأحسن الأحوال جريمة ضدّ الذات، وكره عميق لكينونة الإنسان، واستعراض تافه لفضيلة زائفة ومرتهنة بحجّة الوطنية.
في لا أخلاقية الشماتة والجلّاد
كلّ هذا هيّنٌ واعتدناه، وبتنا نعلم مآربه وما يخفيه، لكن ضحالة التفكير وعدم فهم المعنى الحقيقي لما يحدث في غزة ولبنان وغضّ النظر عن الإبادة الحاصلة أمام مرأى العالم، كلّ ذلك متّصلٌ في المقام الأول بالموقف غير الأخلاقي الذي يحاكم الضحيّة ويقبّل يد الجلّاد. أمام أحداث كهذه، فإنّ كلّ «الهوبرة» النقدية ضدّ المقاومة والتحليلات السياسية التي تحمّل الذنب لمن ثار لأجل حرّيته، تتقزّم أمام أدنى المواقف الأخلاقية تجاه القتل والإبادة. علماً أنّه لا حقّ لأيّ كان أن يسأل عمّا إذا كان «الكفاح التحرري» في 7 أكتوبر وما تلاه يستحقّ مقابل كلّ حجم الدمار والقتل والإبادة. الاعتقاد أنّ الناس الذين يحرّرون أنفسهم في غزة ولبنان هم وحدهم الذين يعرفون الإجابة عن هذا السؤال. هنا بالتحديد تبرز هشاشة بعض الأفكار ويطفو دنوّ الوقاحة في الإصرار يوميّاً على أن يكون المتفرّج هو «بيضة القبّان» بين كفّتي الميزان: كفّة القاتل وكفّة القتيل. أيّ عقلانية تلك التي يتساوى فيها من يصفّق لإسرائيل وبين من تقتله إسرائيل؟ بين من أجاد القتال فثار ونال، وبين من احترف الارتهان فخان؟
يستطرد في ذات السياق كاتب المقال في الحديث عن الممانعين والممانعين الجدد. هنا بالضبط يكمن كلّ الخداع، حين توضع المقاومة في خانة واحدة مع أعدائها في الداخل والخارج بالاستناد عمداً إلى «قياسات زائفة» ناقصة في بُعدها السياسيّ والأخلاقيّ، ومتجاهلة عواقب تساويهما في مجرى الصراع. في كثير من الأحيان، لا يكون التنظير إلا وجهاً آخر من التواطؤ. والتواطؤ يعني أن تنحاز إلى فلان ضدّ آخر. وعادة ما يأخذ التواطؤ جانباً سلبياً في السرّ لأنّه أشبه بالتلطّي خلف الأقنعة. الأقنعة الأكثر رواجاً اليوم هي الحياد. والحياد كذبٌ صريح وجبنٌ أكثر صراحة.
إنّ المثقّف الحيادي هو مثقّف مزيّف وثقافته مخادعة ومرائية. لا ينتصر للحرية ولا للثورة ولا للجمال ولا حتى للعقل. فلا يخدعنّك أحدٌ بحياده. إنّه بذلك أخذ موقفه ضدّك مسبقاً، لكنّه موقفٌ يصحّ القول فيه في الختام ما قاله مهدي عامل: «إنّه موقف من يُصنع التاريخ من دونه وله في التاريخ موقعٌ ترفضه الثقافة، إذِ الثقافة في تعريفها مقاومة، فإذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها فانتصر القاتل وكانت في صمتها شريكته».