بمجرد سماعنا عن وثائقي حول جورج عبدالله، يراودنا أنه لا بد من أن يكون هو حاضراً فيه، أو أنه سيشارك فيه بطريقة أو بأخرى، على الأقل في مشهد مُصوَّر حيث يُجرى احتكاك مباشر معه، فما الذي حال دون ذلك؟ــ سرعان ما يطرح هذا السؤال نفسه، كما حدث عندما فكرنا في صنع فيلم وثائقي عن حياة جورج عبدالله. ولكن اتضح أن التصوير في السجن في فرنسا أمر مستحيل، لا سيما في ما يتعلق بمسألة الترخيص. لذلك، لم نتمكن من إجراء مقابلة مُصوَّرة مع جورج عبدالله. من ناحية أخرى، كان هذا الأخير حاضراً بقراءة بيان (يعود تاريخه إلى عام 2013) في افتتاحية الفيلم، إلا أنه وافق أيضاً على تسجيل مقتطفات من مرافعته أثناء محاكمته في عام 1987. مقتطفات دمجناها في تسلسل الفيلم. إضافة إلى ذلك، قام العديد من أعضاء Collectif Vacarmes Films بزيارة جورج عبدالله بانتظام على مدى سنوات. وعلى الرغم من أنه لم يتدخل بشكل مباشر في عملية إنجاز الفيلم، إلا أن علاقة الثقة التي كانت مبنية معه غذت تفكيرنا حول كيفية سرد قصته وشكّلت مكوناً رئيسياً فيها.

نعتبر جورج عبدالله رمزاً للمقاومة، ثورياً أكثر من الثورة التي انضوى في صفوفها. بطل فج في زمن حرب دامية قلّة استمرّت في خوضها حتى النهاية. لكن بالنسبة إلى اليسار الأوروبي، كما ظهر في الوثائقي، فإن جورج عبدالله لا يعيش فقط في التاريخي فقط، أو في الأثر الذي خلفه وراءه، بل يظهر كأنه حاضر في راهنهم، منتعشاً في يومياتهم كأي قضية وطنية أخرى تشغلهم. ماذا يرمز جورج عبدالله لكل هؤلاء الناس؟ ماذا يعني لهم؟ وكيف تصف علاقتهم به؟
ـــ شكّلت هذه النقطة أساساً في تفكيرنا حول صناعة هذا الفيلم. لقد أردنا بالفعل تجنب الوقوع في مأزق الماضوية لسببين رئيسيين: تاريخ جورج متداخل في تاريخ المقاومة الفلسطينية. وهذه الأخيرة ما زالت حية بالفعل، كما أظهرت أحداث أيار (مايو) الماضي ليس فقط في غزة، ولكن أيضاً في الضفة الغربية ولدى «عرب 48». أردنا أن نشرح كيف أن التطهير العرقي الذي بدأ خلال نكبة 1947- 1948مستمرّ بوتيرة محمومة اليوم، في حي الشيخ جرّاح أخيراً، وفي جميع أنحاء فلسطين. لذلك لم نتمكن من تفسير تاريخ المقاومة الفلسطينية باختزالها في الماضي فقط. وهذا هو أحد أسباب بدء الفيلم بلقطة تتبع جوي طويلة لمسيرة العودة الكبرى لعام 2019، وهي مثال ممتاز لتعبئة الشباب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني والحصار في غزة.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن جورج قد أمضى أكثر من نصف حياته في السجن، إلا أنه حاضر بالفعل في التحركات الشعبية في لبنان ولكن أيضاً، كما أشرتم، في أوروبا، وبخاصة في فرنسا حيث تم سجنه. وفي رأينا، يمكن تفسير ذلك بسببين، الأول هو أن التعبئة من أجل إطلاق سراحه استمرت في النمو على مر السنين. بعدما كان مجهولاً نسبياً في البداية، فإن مطلب الإفراج عنه أصبح الآن مفروضاً على نطاق واسع داخل المنظمات اليسارية بفضل العمل الجاد الذي قامت به العديد من اللجان والمنظمات الداعمة للشعب الفلسطيني في فرنسا وحول العالم للإعلان عن حالة أقدم سجين سياسي في أوروبا. وكدليل على اتساع نطاق التأييد لجورج عبدالله، فإن التظاهرة الأخيرة أمام جدران «سجن لانيميزان» (في جنوب فرنسا) حيث تم سجنه، جمعت أكثر من 1000 شخص، وهي الأولى منذ أكثر من 15 عاماً. لكن وجود جورج عبدالله حتى اليوم يعود تفسيره أيضاً إلى حقيقة أنه يواصل كفاحه كل يوم على الرغم من اعتقاله منذ عقود، من خلال التصريحات، ورفضه للوجبات الغذائية دعماً للأسرى الفلسطينيين المضربين وإلى ما هنالك. كما أنه يتلقى عدداً كبيراً جداً من الزيارات كل شهر ويزداد الطلب عليه عبر بعث العديد من رسائل الدعم. وهكذا، إن نكران الذات والشجاعة اللذين أظهرهما لسنوات عدة كانا بمثابة دليل على ذلك. لكن ما هو ملحوظ في السنوات الأخيرة هو إعادة تبني جزء من الشباب للتراث السياسي المناهض للاستعمار والمناهض للإمبريالية الذي يجسده جورج عبدالله. أما الذي يمثله اليوم لمن يدعمه ويطالب بإطلاق سراحه، فهو تجديد للقضية الفلسطينية وتأييد دولي للمقاومة الفلسطينية.
ظاهرة تتمثل في تبنّي جزء من الشباب للتراث السياسي المناهض للاستعمار الذي جسّده جورج عبدالله


قدم لنا الفيلم الوثائقي سياقاً روائياً غنياً بتفاصيله عن قضية جورج عبدالله من خلال: إبراز الحجج القانونية التي أظهرت إخفاق العدالة الفرنسية، وإزالة النقاب عن التناقضات داخل الحكومة الفرنسية نفسها، والكشف الواضح والجلي، عبر الأرشيفات السمعية والبصرية، لمسؤولية الحكومات الفرنسية المتعاقبة عن اعتقال جورج عبدالله، وخضوعها للإرادة الأميركية وقراراتها التي حالت دون إطلاق سراحه. فهل يمكن اعتبار أن هذه العناصر ونسجها في الوثائقي جعلت من هذا العمل - أو من أحد أهدافه الرئيسية - محاكمة مضادة لمحاكمة عبدالله؟
ـــ كما نحاول أن نشرح في الفيلم، فإن سجن جورج عبدالله هو نتيجة لعدالة مبنية على الاستثناء، كما نتيجة محاكمة سياسية مليئة بالاتهامات الباطلة والمخالفات وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان المحامي الأول لجورج عبدالله، جان بول مازورييه، يعمل في الاستخبارات الفرنسية بينما كان «يدافع عنه»، وكل هذا في سياق سياسي تخترقه المصالح الأميركية وكذلك الفرنسية. لذلك، من المهم في الواقع أن نتذكر أن فرنسا، في ذلك الوقت، كانت تدعم العراق عسكرياً في حربه ضد إيران، وأن هذه القضايا الجيوسياسية كان لها تأثير كبير في الشؤون السياسية والقضائية لجورج عبدالله. ولم يكن هدفنا من هذا الفيلم أن نعود بالتفصيل إلى التاريخ القضائي الذي قاده إلى السجن، بل كان هدفنا أكثر شرح ما كان يجري في هذه المحاكمة وما يجري حتى اليوم في قضيته من خلال مواصلة اعتقاله. لقد أردنا أن نفهم كيف ولماذا تم سجن مكافح لبناني دافع عن بلاده ضد الغزو الصهيوني لأكثر من 37 عاماً في السجون الفرنسية. وإذا كان الفيلم قد اتخذ شكل المحاكمة من خلال مثال جورج عبدالله، فإنه يتعدى ذلك ليشمل بشكل أكبر الإمبريالية الأميركية والفرنسية ودعمهما غير المشروط للمحتل الصهيوني. وهذا بالضبط ما فعله جورج عبدالله نفسه خلال محاكمته التي يستخدمها كمنصة سياسية للتنديد بكل الجرائم والمجازر التي ترتكبها القوى الغربية في المنطقة.

ركز الوثائقي بشكل أساسي على الظلم الذي عانى منه جورج عبدالله وعلى اعتقاله غير القانوني والمطول، مما يجعله أقدم «سجين سياسي» في أوروبا. لكن وانطلاقاً من العنوان «فدائيين»، لماذا لم يسلط الشريط الضوء أيضاً على عمليات النضال البطولي التي قام بها جورج عبدالله ومجموعته؟ هل يمكن أن يكون وراء هذا الاختيار الذي يغيّب هذه العمليات «تصرفاً ديبلوماسياً» قائماً على نية مدروسة للاستغناء عن العنف الثوري (لم يدر جورج عبدالله ظهره له أبداً) لصالح لغة «إنسانية» تخدم قضيته بالتأكيد، وستحمل عالياً حقه في الحرية، وستشير إلى الظلم الذي يصيبه بالفعل، ولكن ألن تسلب هذه اللغة، في المقابل، أفعاله ومواقفه عبر إهمالها ماضيه كله كمناضل لصالح المقاومة، ولا سيما عملياته داخل «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» التي أثرت بعمق في التاريخ والسياسة، وكانت سبباً في اعتقاله في الدرجة الأولى؟
ـــ على العكس تماماً، كان الأمر بالنسبة لنا ترك الاعتبارات «الإنسانية» و«الديبلوماسية» جانباً من أجل إبراز التزام جورج عبدالله ككل بصورة أفضل، بما في ذلك أنشطته داخل «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» (FARL). والمهم في رأينا هو الهدف الثوري والمبادئ السياسية التي وجهت وما زالت توجه التزامه، وهي النضال ضد الصهيونية والإمبريالية والأنظمة العربية الرجعية.
إلى ذلك، إن مسألة «العنف الثوري» حاضرة في كافة مشاهد الفيلم، ولا سيما في الجزء الأول الذي اخترنا أن نشبك فيه قصة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني بقصة جورج عبدالله، الذي اتخذ، في ريعان شبابه، قرار السلاح عن طريق الانضمام إلى صفوف مقاتلي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» لمحاربة الصهيونية. بعدئذٍ قرر، من خلال إنشاء «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، مواصلة النضال في قلب البلدان الإمبريالية، ولا سيما فرنسا، متبّعاً بذلك منطق وديع حداد في «ملاحقة العدو أينما كان». لعل أهم مآثر التسلّح التي قامت بها «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» هي إعدام تشارلز راي وياكوف بارسيمنتوف، عميلي الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية تباعاً. ولم نطور بالتفصيل الإجراءات المختلفة لـ «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» في المقام الأول لأن لدينا معلومات شحيحة تحت تصرفنا من الموالين الرئيسيين الذين التقيناهم. فمن السهل تخيّل أن الكشف عن معلومات معينة قد تكون له آثار ضارة حتى اليوم. أخيراً، ما نحاول إظهاره خلال الفيلم هو الطبيعة الثابتة لكفاح جورج عبدالله الذي لم يستسلم أبداً ورفض التوبة على الدوام. كذلك، يشمل مجمل تاريخه اختيار الكفاح المسلح الذي يُعد أحد أسباب سجنه وإبقاءه في السجن اليوم.

محاكمة مليئة بالاتهامات الباطلة والمخالفات جعلته أقدم أسير سياسي في أوروبا


في رأيكم، هل يمكن للوثائقي أن يكشف الغموض والالتباس اللذين نشآ، بشكل متعمد وملفق، حول التمييز بين الفدائيين والإرهابيين؟
ـــ لربط الإجابة مع السؤال السابق، يمكننا القول إن هذا كان هدفاً للفيلم، بخاصة بالنسبة إلى الجمهور الغربي، وعلى المشاهدين أن يحكموا ما إذا كان الهدف قد تحقق. ولكن، من خلال قصة التزام جورج عبدالله، سعينا إلى إبراز شرعية المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلال. لهذا، من المهم أن نفهم من الذي يضع وصمة «إرهابي» في القصة. فقد استخدمت فرنسا هذه الدعاية ضد الشعب الجزائري المتمرّد وضد كل نضالات التحرر الوطني التي كان عليها أن تواجهها. ومن الغني عن البيان أنّ دولاً مثل فرنسا وإنكلترا وحتى الولايات المتحدة لديها كل المصالح في تصنيف مقاتلي الحرية كإرهابيين من أجل حماية مصالحها الإمبريالية. إنهم يثبتون ذلك باستمرار وبشكل خاص منذ عام 2001. وما كان شن حربهم ضد «الإرهاب» و«محور الشر» إلا من أجل تبرير الغزو في أفغانستان والعراق (من بين أمور أخرى). في هذا السياق، لا يشكّل جورج وجميع الفدائيين استثناءً لهذه القاعدة.

عُرض الفيلم الوثائقي في الولايات المتحدة، الدولة المفتاح في هذه القضية، وصاحبة قرار الإفراج عن جورج عبدالله. واستهدفت جولاتكم المدن الأميركية الكبرى مثل نيويورك وشيكاغو. فكيف استقبل الرأي العام هذا الفيلم؟
ـــ في الواقع، اتجه «فدائيين،ـــ كفاح جورج عبدالله»، إلى الولايات المتحدة في الوقت الحالي، في سياق مهرجانات أو خلال عروض فريدة. ونحن سعداء جداً بالاستقبال الذي حظي به، وغالباً ما يكون مصحوباً بتبادل للآراء حول وضع جورج عبدالله والمقاومة الفلسطينية. أما ردود الفعل على الفيلم، فهي نابعة من حماسة فائقة. في نيويورك، تم تنظيم أخيراً مسيرة للمطالبة بالإفراج عن جورج عبدالله بعد العرض. كنا سعداء لمعرفتنا بذلك. إذ إن الفيلم قد تم تصويره وإنتاجه كأداة للتعبئة. وفي الولايات المتحدة، تقوم العديد من المنظمات بحملات تضامن مع الأسرى الفلسطينيين، لا سيما شبكة «صامدون» و«حركة الشباب الفلسطيني» (PYM). ويمكننا الاعتماد على عملهم لنشر الفيلم وإطلاع الناس على قضية جورج عبدالله.

هل تعتمدون على «فدائيين» في بلورة الوعي والاهتمام بقضية جورج عبدالله، لكي تتعزز بذلك عملية تشكيل رأي عام دولي يكون بمثابة وسيلة للضغط الشعبي، مما يساعد في ترسيخ المطالب بأن تتحقق العدالة وأن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إطلاق سراحه؟
ـــ من البداية إلى النهاية، كانت عملية الإنتاج مدفوعة بهدف جعل هذا الفيلم أداة تعبئة لصالح جورج عبدالله. ومن الواضح أنه مجرد فيلم ولا شيء يحلّ محل العمل الميداني. ولكن اليوم «فدائيين ــ كفاح جورج عبدالله» يرافق التعبئة في العديد من الأماكن في فرنسا وفي العالم، ويحمل في رصيده حالياً ما يقرب من مئة عرض سابق ومستقبلي. ونريد أن يواصل الفيلم العمل من أجل الإفراج عن جورج عبدالله.

أجريت هذه المقابلة مع ممثل شركة Vacarmes Films ماتيو جولان حول فيلم «فدائيين» وتُرجمت من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية