مقالات للكاتب

نجيب نصر الله

الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024

شارك المقال

عن أهمية الإسناد اللبناني


خلافاً لبعض الذين صاروا يجاهرون بتبعيّتهم لـ «آمر» هو في الواقع تابع تافه لتابع أتفه لتابع أشدّ تفاهة... ثمة من يحاول التذاكي، ومواراة تبعيّته المكشوفة برثّ الواقعية وصدأ العقلانية. غير أن الواقع يقول إن تبعيّته، هو الآخر، لا تقلّ عن تبعية الأول بل تزيد.
فالتابع الأول الذي بلغت به الصفاقة والتحلل القيمي والأخلاقي والوطني والإنساني حدّ المجاهرة بتبعيته والتفاخر بها، ربما كان أقل سوءاً من ذاك المتحذلق الذي يخشى من التعبير عن حقيقته الآسنة، فيلجأ إلى لوك الكلام الممجوج وخطّ العبارات الشوهاء التي لا تقول شيئاً، وإن قالت فمجرد رصف ركيك لقديم مبتذل لا جديد فيه.
وإن هذا الذي يحاول أن يبدو مخالفاً، في الشكل وليس في المضمون، هو في الحقيقة نسخة معدّلة عن التابع الأول إن لم يزده في الرداءة والخسّة. وإن رداءته التي تفوق الوصف، والقول لواحد مخضرم منهم عبّر عن ضيقه من مزاحمة الطارئين الجدد على التبعيّة تكاد أن: «تتفوق على الرداءة نفسها». ولعل ما دفع بالمخضرم التافه هذا إلى التصريح عما في نفسه أنه، بخلافهم، لا يملك «شجاعة» (صفاقة) الاعتراف ولا مجاراتهم في وقاحتهم. وإذا كانت ميزة الصنف الرديء جهره وتباهيه بما كانه أو صار إليه، فإن إمساك الصنف الأردأ، وهو الأردأ قطعاً، عن الاعتراف بواقع تبعيته الملموس والمحسوس، وإنكاره، يجعله أسيراً مزمناً لذهان حادّ لا علاج له إلا بالمزيد من الإمعان في... التبعية. فهو مثلاً مع فلسطين، لكنه ضد مقاومتها، ومع الحقوق الفلسطينية لكنه يتعامى عن مخاطر التطبيع الإبراهيمي وأثره على الحقوق، وهو مع «الديموقراطية» في سوريا لكنه يرفضها في محميات العار في الخليج، وهو مع مهسا أميني في إيران لكنه لا ينبس ببنت شفة على تقطيع جمال الخاشقجي وتذويب أشلائه بالأسيد، وهو مع حرية التعبير والتظاهر في العراق لكنه يصمت عن نظام القمع الإماراتي واعتقال «المغردين» في قطر والمدوّنين في البحرين أو سجن المعارضين للنظام التابع والعميل في مصر...
الأحدث في مواقف هذا الصنف الأردأ أنه، وانسجاماً مع خطه المتعرج والمتناقض إياه، لا يجد حرجاً في الإصرار على تكرار استنكار قرار «الإسناد» اللبناني لأهل غزة وفلسطين. لكنه وكما العادة يوارب استنكاره غير المستجدّ بخبث القراءة وتفاهة التحليل، مفترضاً أنه بمواربته المعهودة هذه، وتمثيله لدور الحريص، قد نجح في مواراة حقيقته التابعة. فهو باستنكاره المشين هذا، البعيد عن حقائق الواقع ومعطياته، يذهب حتى أبعد مما ذهب العدوّ نفسه. فالعدو الذي تعامل مع القرار بوصفه تحدياً استراتيجياً كبيراً وعبئاً عسكرياً ثقيلاً، وفرض عليه، من جملة ما فرض، تكبّد الخسائر الفادحة، لم يجرؤ على التهوين من أبعاده الاستراتيجية. فمن نتائج هذا الإسناد وفضائله التي لا تحصى أنه أكد على ما هو مؤكد لجهة كشفه لهشاشة الكيان التكوينية، ودفعت بقادته نحو الاستجارة العلنية براعيه الأميركي الذي اضطر نتيجة لاستشعاره بالمخاطر الكبيرة المحدقة، إلى التعديل في خطط تركيزه على حربه على روسيا وبرنامج مواجهته مع الصين، والهرع لنجدة استثماره الأعظم. فكان حشد الأساطيل وتوجيه الإنذارات واستنفار القواعد والمحميات. وكان أيضاً الانكشاف غير المسبوق لعموم الأنظمة العربية العميلة التي اصطفّت كما لم يحدث أن اصطفت من قبل، ليس خشية من فعل الإسناد فحسب بل لخطورة القرار اللبناني الشجاع ومفصليته وخوفاً من نتائجه، إذ إن الإسناد الذي يستنكره هذا البعض مثّل في الشكل كما في المضمون نقلة متقدمة غير مسبوقة في معركة المقاومة مع العدو وصنّاعه، وكان خطوة في غاية الأهمية وذات أبعاد استراتيجية لن تكون بلا نتائج مستقبلية تأسيسية. كما أن هناك أهمية إضافية. فالنقلة التي حاصرت العدو وفرضت عليه تغيير الخطط واستبدال الخرائط وتعبئة الموارد، كل الموارد، كشفت في ما كشفت عن حقائق كثيرة وأسقطت أوهاماً صنعها الضعف العربي وموّلها عجز أنظمته وتبعية قادته. كما فضحت أساطير القوة المزعومة وأكدت على واقع عجزه البيّن والمعروف لدى الجميع؛ وأولهم المقاومون الأبطال باستحالة استمراره من دون معونة الغرب، ناهيك عن إرغام الغرب، كل الغرب، على الكشف الصارخ عن حجم وأبعاد الصلات الوريدية القائمة بينه وبين الكيان، وحقيقة أن هذه الصلات تتعدى الدعم والإمداد والحماية إلى حدود التماهي والتطابق والشراكة في الهمجية، وهو ما أفضى إلى شقوق أولية في مجتمعات هذا الغرب، ربما أمكن البناء عليها.
ولأن منطق الرداءة لا يقف عند حدود الاستنكار المستنكر، يتقدم تابع آخر من اللفيف التافه إياه نحو اعتبار الإسناد «خطأ استراتيجياً» كان يجدر بالمقاومة تجنبه، مفترضاً أنه بقوله هذا يقول جديداً صادقاً أو بعيداً عن الشبهة، غافلاً ومتغافلاً عن حقيقة أن ما قامت به المقاومة هو في الواقع، وعلى ما بات واضحاً وجليّاً لكل باحث عن المعرفة، أنه كان، في جوهره العميق والبعيد، استباقاً استراتيجياً لحرب مقررة أكبر وأخطر، وأن العدو كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليها. بل إن حال الإسناد في ذلك كانت من حال 7 أكتوبر المجيد الذي جاء في سياق استباقي مماثل لما هو أخطر وأشد. فالمسار التطبيعي الذي كان قد شارف على بلوغ الخواتيم التصفوية، كان يحتاج في محطته الأخيرة إلى حرب كبيرة كان الغرب قد وضع خططها وأعدّ مسرحها ووزّع أدوارها. وكانت لولا الوعي الاستباقي لتكون حرباً لا تبقي ولا تذر. فوعي المقاومة الثوري في فلسطين ولبنان هو الذي فرض على مقاومة فلسطين استباق لحظة الإطباق التطبيعي، كما فرض على مقاومة لبنان إعلان الإسناد الذي فرض إيقاعه على الحرب، وتالياً التأسيس لمعادلات جديدة أبعد من الردع.
إنها تبعية التافه لتافه أشد تفاهة منه. لكنّ المهم أن أصوات التابعين ستبقى مجرد أصوات لا قيمة لها، وكلما علت بالاستنكار أو غيره فإنها تؤشر على عمق مأزق المشغّل التابع لمشغل... وهي لا تعدو أن تكون رجع صدى للعويل الإسرائيلي الذي سيشتد يوماً بعد آخر وصولاً إلى يوم التسليم بالهزيمة التي يتولى مقاومو لبنان وفلسطين واليمن والعراق وسوريا كتابة أحرفها.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي