«لبنان من البلدان العربيّة التي تشهد انتقالاً ديموغرافياً سريعاً نحو الشيخوخة. وتظهر نتائج المسح الوطني للأحوال المعيشيّة للأسر لعام 2012 ارتفاعاً ملحوظاً في عدد كبار السنّ الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة، لتصل نسبتهم إلى 11.9% من مجموع السكّان المقيمين في لبنان، ويتوقّع أن تتجاوز 14% بحلول عام 2035»، بحسب دراسة «الأولويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة لكبار السن في لبنان: سبل العيش بكرامة» (2018) الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة بالشراكة مع اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا).
زاد الطلب على المآوي، رحيل آلاف العاملات الأجنبيات اللواتي كنّ يرعين المسنّين في المنازل (هيثم الموسوي)

عليه، ومع الهجرة المتزايدة للشباب وتراجع الإقبال على الزواج بسبب الانهيار الاقتصادي وتدنّي معدلات الخصوبة، فإن من شبه المؤكّد أن لبنان «سيحقّق» رقم الـ 14% المتوقع عام 2035 قبل ذلك بكثير. يعني ذلك أن «ملف المسنّين» يفترض أن يكون في صلب أولويّات الدولة، علماً أنه في ظل الاستمرار في الانهيار فقد يكون من شبه المستحيل تدارك النتائج السلبية لذلك، خصوصاً أن الدراسة نفسها أشارت إلى غياب «قانون خاص بكبار السن في لبنان يشتمل على تعريف لهذه الفئة الاجتماعيّة أو تحديد لحقوقها وللخدمات الحكوميّة المستحقة لها». وفيما يختلف سن التقاعد بين مختلف القطاعات، «فإن إدارة الإحصاء المركزي تعرف كبار السن بأنهم البالغون 65 سنة أو أكثر من العمر».
«نيّال يلّي بيخرف عبكّير، بريّح راسو. على الأقل ما بعود يشعر بالخجل إنو صار عبء على غيرو»، يقول السبعيني عبدالله، نزيل إحدى مؤسسات الرعاية بالمسنّين التي لم تعد قادرة، في ظل الأوضاع الحالية، على أن تكون اسماً على مسمّى. إذ إن «الرعاية» التي تُقدّم إلى هؤلاء باتت تقتصر على الأساسيات الضرورية للعيش، و«قدرتنا على الصمود شارفت على نهايتها» على ما تقول مديرة إحدى دور العجزة في الشمال. أضف إلى ذلك أن وصف المسنّ ليس مرادفاً للخرف كما هي الصورة النمطية عن نزلاء دور العجزة ومؤسسات الرعاية. إذ إن معظمهم يدركون ما يجري من حولهم، «إلى حدّ أننا اضطررنا لقطع الدش عن الغرف لنجنّبهم آلاماً نفسيّة إضافية، والقلق من احتمال فقدان أدويتهم أو عدم القدرة على إدخالهم إلى المستشفيات» وفق مديرة دار للعجزة.
وإذا كانت معظم الدراسات والأدبيات حول كبار السن تستند إلى تعريف إدارة الإحصاء المركزي، إلّا أن أعمار الرجال والنساء الذين باتوا يقصدون المآوي ودور المسنّين باتت تشهد تدنياً ملحوظاً. وتلفت يارا بو عون، مؤسسة جمعيّة «بيت جدودنا» لرعاية المسنين، إلى أن «اتصالات كثيرة تردنا من أشخاص في الخمسينيات والأربعينيات وحتى الثلاثينيات بحاجة لمكان يؤويهم. كثيرون منهم فقدوا أعمالهم ومورد رزقهم ولم يعد باستطاعتهم دفع الإيجارات وتلبية أدنى متطلبات الحياة. لكنني ملزمة، بالقانون، باستقبال الأشخاص الذين تفوق أعمارهم عن الـ64 عاماً، الوضع مأساوي».
وإلى تدهور الظروف المعيشية وارتفاع كلفة الرعاية الصحية وسعر الأدوية، يزيد من الطلب على المآوي «رحيل الآلاف من العاملات الأجنبيات اللواتي كانت نسبة كبيرة منهن تهتم بالمسنين في المنازل» بحسب مالك مارون، المدير التنفيذي في دار الرعاية الماروني، مؤكّداً «أنني أتلقّى أكثر من 10 اتصالات يومياً، والمركز غير قادر على استقبال أي نزيل جديد». وتلفت مديرة إحدى دور العجزة إلى «أننا غير قادرين على قبول أي طلبات إضافية، لكي نحافظ قدر المستطاع على النوعية التي نقدمها للمسنين الذين نرعاهم. أساساً من بإمكانه أن يتحمل تكاليف المآوي؟ نطلب مليون ليرة شهرياً، لكن أحداً غير قادر على دفعها».
5 ملايين ليرة كلفة العناية بالمسنّ شهرياً تدفع منها وزارة الشؤون 525 ألف ليرة


الكلفة التي تتكبّدها المآوي ارتفعت بشكل هائل فيما المداخيل «شبه معدومة». إذ يلفت مارون إلى أن «كلفة العناية الشهرية بالمسنّ الواحد ارتفعت إلى حوالى 5 ملايين ليرة، من دون الأخذ في الاعتبار كلفة المستشفى في حال اضطررنا إلى إدخاله إليها، في حين أن ما يفترض أن يصلنا من وزارة الشؤون الاجتماعيّة عن المسنّ لا يتعدى 525 ألف ليرة شهرياً. إذ تدفع الوزارة 17 ألفاً و500 ليرة فقط بدلاً يومياً للمسنّ، علماً أن وزارة الشؤون لم تدفع لنا أي مستحقات منذ عامين». والأمر نفسه ينطبق على وزارة الصحة، «التي تدفع 26350 ليرة كبدل يومي عن المسنّ، ارتفع إلى 52 ألف ليرة مع بداية الشهر الماضي، ولا نتقاضى المستحقّات إلا كل عامين. هذه المبالغ لم تكن تكفينا لرعاية المسنين على أيام الـ 1500، فكيف اليوم؟ مع العلم أن عقد الرعاية يكون إما مع وزارة الصحة أو مع وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا يمكن للمسن الاستفادة من عقدَي رعاية في الوقت نفسه».
غياب وزارة الصحة ينسحب على الاستشفاء «الذي يعد مصدر الخوف الأكبر. لا يوجد أي شيء اسمه تغطية 100%. في حال كان للمسن أقارب يسألون عنه وقادرون على دفع فرق الاستشفاء، وفي حال العكس نتحمل نحن الكلفة»، يقول مارون. وتلفت بو عون إلى أنه «في حال لم نوفّر مبلغ 8 ملايين ليرة كوديعة للمستشفى لا يدخل المسن. وأتحدث هنا عن مستشفيات حكوميّة، وبعد ألف واسطة واتصال. بهدلة بكل معنى الكلمة»، فيما تُشير مديرة مأوى في الشمال إلى أنه «حتى كلفة الـ PCR يتكبّدها المسن وعائلته أو دار الرعاية. فحوصات الدم علينا... الوزارة حاضرة بالاسم».
في ظل هذا الواقع، تكافح المآوي للحفاظ على الحد الأدنى من الرعاية اللائقة للمسنين، مع اللجوء إلى كثير من الإجراءات الصعبة. بحسب مديرة المأوى في الشمال، «كنا نحفّض المسن 5 مرات يومياً، أما الآن فنحفّضه 3 أو 4 مرات. سعر الحفاض الواحد 10 آلاف ليرة. حتى استخدام الشوفاج للتدفئة بات خاضعاً للتقنين كلما استطعنا أو وجدنا أن الطقس دافئ». وتُشير بو عون إلى أن «المسنين كانوا يفطرون يومياً لبنة وجبنة. اليوم نركّز على الزعتر أكثر. أما اللحومات فاستخدامها في الطبخ أصبح وقفاً على المساعدات التي نتلقّاها وقيام بعض الأشخاص بتوفيرها لنا. الأولوية للدواء». وبدوره، يُشير مارون إلى «أننا لا زلنا نوفر اللحوم. لكن خفّفنا من استهلاك السمك».
وينطبق الأمر نفسه على الأدوية التي «نشحدها شحادة. توفير الدواء بات مهمة شاقة. ونطلب أدوية من المسافرين القادمين إلى لبنان أو من جمعيات معيّنة» بحسب مديرة المأوى الشمالي. ويقول مارون إن «جمعية الشبان المسيحيّين بالتنسيق مع وزارة الصحة تؤمن لنا بعض الأدوية. والباقي ندق الأبواب ونطلب المساعدة.
الجميع يؤكّد أنه لولا المساعدات والتبرعات لما كان بالإمكان الاستمرار. ويقول المدير التنفيذي في دار الرعاية الماروني إن «الاتكال هو على المساعدات، الجمعيات، المبادرات الفرديّة، وفاعلي الخير». أما مديرة المأوى الشمالي فتحسمها: «لولا الجمعيات والمساعدات لكنا أغلقنا أبوابنا من زمان».
وما يفاقم من المأساة، أوضاع العاملين في المآوي ودور المسنين. فرغم أن عملهم إنساني بالدرجة الأولى، إلا أنهم بحاجة للحد الأدنى للصمود. يتساءل مارون «كيف لنا أن نحافظ على الموظّفين؟» بعدما تدنّت قيمة رواتبهم. وتلفت مديرة المأوى الشمالي إلى أن هذه الرواتب «لا تساوي شيئاً، مقارنة بالمهام الملقاة على عاتقهم. يعملون باللحم الحي، وكثيرون منهم يأتون من أماكن بعيدة ويصرفون راتبهم على المحروقات»، فيما تشير بو عون إلى أن «معظم العاملين لدينا هم من المتطوعين من الشباب، لكن أعدادهم تراجعت»