في نهاية ثمانينيّات القرن الماضي، كانت الحرب الأهلية في ذروة بشاعتها وعبثيّتها. لا أحد يطيق أحداً. المحاربون مثل الناس العاديين يهيمون على وجوههم دون قرار. وحدهم القادة الذين صرخوا ونادوا وقالوا وطالبوا وحثّوا، كانوا يشهرون علاقات المصالحة الكاذبة. كانوا على يقين بقرب انتهاء حفل الألعاب النارية وبدء موسم الحصاد من دون رصاص.في تلك الفترة، لم يكن هناك شارع في لبنان بلا بصمات الحرب. لم تبق منطقة أو طائفة أو مذهب أو حزب أو مؤسسة من دون توقيع الموت. يومها، لم يكن لصوت الرصاص والانفجارات معنى إضافيّ غير لهو الأشقياء قبل الخلود إلى نوم عميق. ولم يكن لصراخ الناس من معنى لأن أحداً لم يكن يصغي إليه. لكنّ حقيقة واحدة تكوّنت، أن الفقر والتيه يوحّدان الجميع رغماً عنهم، وأن الجمع متى قرر كبير ما سيكون جاهزاً للانصياع.
لم يكن انتقاد ما يجري ممنوعاً، لكن الناس انشغلوا في ترميم حياتهم اليومية والبحث عن ملاذات آمنة. لم تمض سنوات حتى كان مئات الألوف قد حطّوا رحالهم في الأماكن البعيدة. ومن بقي هنا، وقف على بقايا شرفات، يشاهد عمليات الجرف وبناء المدن الجديدة، ويرى المقاتلين والمقتولين يحملون المعاول ويعملون بصمت المهزوم. ويرى ويسمع صخب القادة إياهم، يديرون الحفل كله... ولا يزالون يقودون المريدين الى حتفهم يوماً بعد يوم، وعقداً بعد عقد، ولا يزالون.
في تلك الأيام، كان زياد الرحباني يروي للناس مآسيهم اليومية بلا توقف. لم يكن يرحمهم في أي شيء. كان يصف الناس كما هم دون مواربة أو تجميل. وهم كانوا يضحكون على مأساتهم. ولكنهم لم يصغوا جيداً إلى ما قاله لهم مراراً وتكراراً، منذ بداية سبعينيّات الحرب الأهلية حتى تسعينيّات الإعمار الموهوم. رفضوا الاستماع إلى حقيقتهم القاسية.
ها نحن نحتفل قريباً بالذكرى الثلاثين لتوقف الحرب الأهلية، وبدء إعادة الإعمار على الموج. ها نحن نقترب من لحظة استذكار تلك الأيام القاسية وما تلاها من سنوات قهر وموت. وها نحن نستغرب أنه يوجد بيننا من يبحث، إلى اليوم، عن مفقود لم تظهر صورته حياً أو ميتاً. وها نحن، نعيد رسم الأفق الأسود، المقفل على ذواتنا كأنّ شيئاً لم يكن...
لكن، هلّا أخرج كل هؤلاء الناس صور وأصوات من تحكّم بهم طوال سنوات الحرب، ثم جدد لنفسه بموافقتهم، واستمر يتحكّم بهم طوال سنوات السلم كما في سنوات الحرب. وها هو يقف على صدورنا، لا يتعب من الصراخ والمناداة بالدولة العادلة والمساواة وإزالة مسبّبات الخوف والغبن والتمييز...
من رحل لم يعرف نتائج المعركة المفتوحة، ومن بقي لا يعرف شيئاً عن غده المجهول


ها نحن، بعد كل الذي حصل، ننتظر العائلات نفسها، بأجيالها الجديدة المستعدة لتولّي الدفة، وننتظر المؤسسات ذاتها، أو واجهاتها الجديدة، وننتظر ممثلي الله أنفسهم، بكل صنوفهم وعناوينهم وطقوسهم ولباسهم.
ها نحن ننتظر القناصل بعدما صاروا سفراء، والمندوبين السامين بعدما نالوا لقب البارونات، وعسس الجلادين بعدما صاروا جنرالات، ونتلهّف لوصول حفيد المستعمر الأول الهارب من صراخ أهله، ونصلّي لأجل رضى راعي البقر الغاضب من تشلّع مزرعته، وننتظر بركة مشايخ لا يعرفون سوى القرصنة والقتل مذ ولدوا وإلى حين يبعثون...
ها نحن نقف عند حدود البحر، ننتظر من يقلّنا الى الأماكن البعيدة مرة جديدة، وننظر بعين الشفقة على من يريد البقاء هنا منتظراً انتهاء الليل، ونرقص حول جثث أحبّاء وأبناء لم نعلّمهم سوى الرواية نفسها، وصدّقوا كذبتنا الأبدية عن بلد لم يعد له أثر حتى في قصص المساجين السوداء.
ها نحن، نقف بلا حيل ولا قوة، بلا شغف وبلا حب وبلا رغبة بأيّ شيء. من رحل لم يعرف نتائج المعركة المفتوحة، ومن بقي لا يعرف شيئاً عن غده المجهول...
لكن، يبقى لبنان على ما هو عليه، شعبه هو ذاته، وقضاياه هي ذاتها، وحكايته هي نفسها، والناس فيه على دين ملوكهم، قضوا وبُعثوا وما بدّلوا تبديلا!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا