درج البعض، منذ ما قبل النكبة، وتاريخها الممتد، على ممارسة لعبة خبيثة وماكرة، تقوم في جوهرها على الفصل والتمييز بين فلسطين والفلسطينيين. فجاهر بانحياز لفظي إلى فلسطين والفلسطينيين، لكنه تجنّد في محاربة شعبها الذي دُفع إلى ترك أرضه والإقامة حيثما تسنى له. وقد ترجمت هذه اللعبة نفسها في غير بلد من بلدان اللجوء الفلسطيني بسياسات وقوانين وممارسات عدوانية وعنصرية استهدفت إلى التضييق والتهميش العزل والإقصاء. الأمر الذي ترك ندوباً عميقة في الوجدان الفلسطيني والعربي.الاستهداف الجديد والمباشر لفلسطينيي لبنان من خلال التذرع برغبة السلطة اللبنانية، أو بعض أطرافها، في تنظيم سوق العمل اللبناني، وحماية اللبنانيين من المزاحمة يرتبط، بأوضح الصور، بالسياق التآمري المحيط براهن القضية ومستقبلها. وليس من الاختراع القول إن اختيار التوقيت يتزامن مع الجهود الأميركية والإسرائيلية الهادفة إلى شطب القضية وتبديد شعبها. وليس في الأمر أي مصادفة، ولا هو مجرد خطوة ناقصة ارتكبها فريق سياسي صاحب تاريخ مثقل بالعداء لفلسطين وللفلسطينيين. إن الاستهداف الجديد، الذي يصوّره البعض على أنه مجرد إجراء إداري لبناني، يتضمن ما هو أبعد من كونه كذلك بكثير. وهو جاء ليكشف عمّا هو معروف من عمق الصلات التي تجمع هذا الفريق ورعاته من عرب أميركا ودورهم في «صفقة القرن»، وفي غيرها من المخططات الهادفة إلى سحق القضية وتجاوزها تجاوزاً تاماً.
إنها لحظة الكشف عن الوجوه، وإعادة الإضاءة على طبيعة الصراع وهويته التي شابها الكثير من التشويه في العقود الماضية. بل إنها لحظة التأكيد لطبيعة الانقسام العربي العميق وحقيقته بين تيارين اخترقا الوعي ومصالحه، بين أنظمة عميلة ومأجورة قامت على التفريط وعاشت عليه، وبين شعوب وحركات تحرر اختارت الانتصار للقضية والدفاع عنها وعن المنطقة ضد أشكال الإجرام الاستعماري المنفلت من عقاله. ويوماً إثر يوم، يتأكد ــ بالملموس ــ أن لا مجال للجسر بينهما. فهذا الانقسام - الصراع يقوم ويتمحور بين من يرى إلى فلسطين من منظور المصالح القومية الذي يفترض في بديهياته اعتبارها البوصلة الوحيدة في اتجاه تحقيق أماني الوحدة والحرية والاستقلال وتطلعاتها، وأحد عناصر النهضة لتأمين حضورها بين الأمم، وكتعبير أصلي وأصيل عن هوية المنطقة التي ننتمي إليها، والعنوان المفتاحي والمعياري للتعبير عن المشاركة غير المشروطة وغير المقيّدة في المعركة المفتوحة مع المتربصين من الأعداء، كل الأعداء... وبين من يرى عكس ذلك تماماً، ويترجمه هنا وهناك بسياسات تلاقي أهداف المشروع الاستعماري الإحلالي وداعميه من خلال السير في ركابه دونما أدنى خوف.
إن من أخذ القرار بفتح النار على الوجود الفلسطيني في لبنان، قصد أساساً إصابة الهوية الفلسطينية بكل ما تعنيه وتمثله هذه الحمولة وطنياً وقومياً. خصوصاً أنه جاء في توقيت يلاقي فيه، بشكل أو بآخر، عن وعي أو عن جهل، ما يُعد لهذه الهوية التي لا نجازف إن قلنا إنها باتت تختزل الهويات وتشكلها.
فلسطين اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، وربطاً باحتدام الحرب العدوانية وشراستها، هي القضية الأساس، وهي عنوان المستقبل الذي تتطلع إليه شعوبنا. والانتصار لفلسطين ولحق شعبها في امتلاك هويته السياسية والتعبير عنها هو انتصار للمنطقة ولِحَقّها في الأمن والسلام والتنمية، الذي تمثل إسرائيل، بوصفها واحدة من قواعد الإرهاب الاستعماري، العقبة الأساس التي تمنع تحقيقه. وهو فوق كل ذلك انتصار لقضايا الحق والعدل والحرية في هذا العالم الذي يُراد للإرهاب الأميركي أن يحكمه ويُقرر مصائر شعوبه.