إن تجديد «أمر فصل» الضباط الصادر أخيراً عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان واعتراض قادة الوحدات في مجلس القيادة على ذلك أدى إلى توتر يجسد أزمة ناتجة من تنافس سياسي وطائفي ومذهبي وسباق على مضاعفة النفوذ في إدارة مؤسسات الدولة. اللواء عثمان المصنّف من حصة فريق سياسي، يسعى إلى الحفاظ على نوع من أنواع العرف الذي يقضي بإلحاق قوى الأمن بمرجعية مذهبية بحجّة إلحاق مؤسسات أخرى بمرجعيات طائفية ومذهبية. أما قادة الوحدات المعترضين فمصالحهم الفئوية تقتضي منع عثمان من إخضاع قوى الأمن لفريق محدد.غير أن جميع المسؤولين في إدارات الدولة لا يكفوا عن تكرار معزوفة «التوازن الطائفي والمذهبي». وما يقصدونه فعلياً ما هو سوى التعبير عن حرصهم على التوازن بين عصبيات مذهبية لمواجهة عصبيات مذهبية أخرى. هو أسلوب في هيكلة المؤسسات يستجيب لـ«بارانويا» دائمة وتشنج مستديم بين الملل الحاكمة.
وفي هذا الإطار إن التحدي الأبرز الذي يواجهه عثمان، كما واجهه سلفه قبله، يكمن في هيمنة المحاصصة الطائفية والمذهبية والسياسية على مجلس قيادة قوى الأمن الذي يترأسه. فوحْدَتا أمن السفارات والإدارة المركزية «مقرّبتان» من عين التينة والشرطة القضائية من المختارة والدرك الإقليمي والمفتشية والقوى السيارة من بعبدا. وبالتالي يبدو أن إدارة عثمان لقوى الأمن تقتصر عملياً على شرطة بيروت وفرع (حوّله سلفه إلى شعبة) المعلومات (الذي يفترض أن يخضع لهيئة الأركان التي يقودها ضابط من طائفة أخرى).
مجلس قيادة قوى الأمن يشبه إلى حد بعيد مجلس الوزراء. وقد يكون عثمان أفضل العارفين بمأزق الرئيس المكلف حيث يشهد على أنه رئيس لمجلس لا يرأسه، ويسعى في الوقت نفسه إلى منع أي رئيس آخر أن يرأسه. هكذا تصبح المؤسسات بلا رئيس مسؤول يتحمّل مسؤولية أدائها وتضيع بالتالي المساءلة والمحاسبة وتصبح المؤسسات سائبة والهدر قائماً و«الطاسة ضايعة».
لا يقتصر هذا الخلل في هيكلة مجالس إدارة مؤسسات الدولة على المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بل يشمل معظم الإدارات العامة؛ لكن قد تكون لتبعات الخلل الهيكلي في قوى الأمن أضرار تزيد جسامة على الأضرار لدى المؤسسات الأخرى. فلا شك أن تفاقم الأزمة التي تعاني منها قوى الأمن سيؤدي إلى مزيد من العجز والضعف والترهل لأهم وأكبر أجهزة الضابطة العدلية في لبنان.
محاصصة البوليس لا تؤدي إلى تحقيق «التوازن الطائفي والمذهبي والسياسي الذي يثبت الاستقرار» كما يحلو للبعض أن يقول، بل إن المحاصصة هي سقوط الحجر الأول في اصطفاف حجارة الـ«دومينو». ويتبعه سقوط الحجر الثاني الذي يفتح الباب واسعاً أمام التدخل الفئوي في عمل الشرطة لتسهيل إفلات بعض الجناة من المحاسبة واستخدام السلطة لخدمة أطراف على حساب أطراف أخرى. سقوط الحجر الثالث يشرع الفساد والتلاعب والنهب حيث يلجأ الضباط الفاسدون إلى التلطي خلف زعماء الطوائف والمذاهب. الحجر الرابع يسقط كل حجارة اللعبة في بحر من الفوضى. ويصبح كل ضابط قائد وحدة زعيماً لمجموعة مسلحة ومتخاصمة مع ضابط آخر يقود مجموعة مسلحة أخرى باللباس الرسمي نفسه أو بزي مبتكر (كما هي حال زي فرع المعلومات). ونعود، لا سمح الله، إلى أيام عصيبة مرت بها المؤسسة عام 2009 عندما كاد يقع صدام مسلح في المقر العام لقوى الأمن الداخلي في الأشرفية بين الدرك الإقليمي وديوان المدير العام.
مؤسسة قوى الأمن الداخلي تحتاج إلى ورشة إصلاح شاملة وإلى عزلها في شكل كامل عن التنافس السياسي والعصبيات الطائفية والمذهبية ولا يتحقق ذلك إلا بعد رحيل كل الضباط «المحسوبين» على أطراف سياسية وطائفية ومذهبية، من دون أي استثناء.