محمد الماغوط، «البدوي المشعّث»، كما وصف نفسه، والغاضب، الحنون، «الحاجبُ القديم على باب الحزن»، شاعرٌ التقط صور البؤس والكلمات المُهمَلة التي نزلت إلى الأزقّة، وجعلها بسحر موسيقاه وصورِه المفاجئة، قصائدَ ترتعش بالدّهشة. إنه الشاعر الذي تُبكيه القصيدة ويُبكيه «ضوء القمر ورائحةُ الأطفال»، ويبكيه ذِكْرُ شام وسلافة.
من الأطراف جاء، «من حدود البادية» كما كان يحبّ أن يؤكّد باستمرار. جاء يحمل في روحه وحساسيته الامتدادَ وعشقَ الحريّة وكراهيةَ الجدران. لكنّ السجون والجدران الضيّقة ـ التي بدت له «ملايين الجدران» ـ قد ظفرت به وتركت في خياله أثر مخالبها، فلم يجد ما ينقذه منها إلا فسحة الشعر. وكان ما كتبه شعراً يمتزج فيه الحزن والحنان، الانكسار ومرارة السخرية. كان الشعر ثأره من تلك الجدران ومن حضارة الجدران ونُظُمِها، بكل معانيها؛ كان حريتَه الوحيدة وانتماءه الحقيقيّ.


■ ■ ■


ولد الماغوط عام 1934 في بلدة السّلميّة من محافظة حماه في سوريا. أدّى الخدمة العسكرية الإلزامية عام 1955. في أثناء خدمته العسكرية سُجن مراراً لأسباب سياسية حزبية لم تكن له فيها أي مسؤولية غير مسؤولية الانتماء إلى حزب مُرَخَّص. هذا السجن ترك آثار مخالبه في شعره وفي نفسه. فانبثق شعره جديداً خارج المعايير المألوفة. خرج من تراث اللغة الأنيقة، وظلّ نبيلاً خارج الموضوعات «النبيلة» بالمعنى التقليديّ.
ذات مساء في أواخر عام 1957 جاء بصحبة أدونيس إلى البيت. كان قد خرج لتوّه من السجن العسكري في دمشق، وتوجّه فوراً إلى بيروت. وجهه حائر، ملابسه لا تزال ملابس السجن: نصف عسكرية نصف مدنية.
أدونيس قال لي: «أعدّي عشاءً لائقاً. ضيفنا شاعر مهمّ جدّاً».
وكانا قد التقيا في السجن وقرأ أدونيس بعض قصائده وأعجب بها.
وفي اليوم التالي قرأ أدونيس قصائد من شعر هذا الشاعر في جلسة «خميس مجلة شعر»، وأحدث شعره تلك الدهشة المفاجئة المعروفة، التي تكرر الكلام حولها. وكانت تلك انطلاقته الصاعدة.

■ ■ ■


اخترق الماغوط، حين كتب، تقاليد الشعر العربي جميعها. بل اخترق تقاليد الشعر المألوفة. عديدون قبله كتبوا الشعر بلا أوزان وحتى بلا إيقاع. بينهم شاعر من المنطقة التي ينتمي إليها الماغوط، والواقعة على حدود البادية. وهو الشاعر السوريّ سليمان عوّاد. وقد كرر الماغوط امتداح شعره واعتبره رائداً.
التقط صور البؤس والكلمات المُهمَلة التي نزلت إلى الأزقّة، وجعلها بسحر موسيقاه وصورِه المفاجئة

وكانت هناك نصوص نثرية مؤثرة، تستدعي الإعجاب، لكنها لم تبلغ ما بلغه الماغوط من السحر والمفاجأة. لم تكن خصوصية الماغوط في التخلّي عن الوزن والموضوعات المألوفة أو الموضوعات النبيلة والبلاغة الموروثة وحسب، بل تخلّى عن سلّم القيم التقليدية وعن المفردات والعناصر المألوفة في الشعر. تخلّى عن الصور المُصَعَّدة والعبارات المنمّقة المكثّفة والمعايير الجمالية والبلاغة الكُتُبيّة. اعتمد صوراً ناهضة من عناصر يومية مألوفة. اعتمد لهجةً متنازِلة ومؤالفاتٍ مفاجئة، تُفارِق الفخامة والفصاحة وتبتعد عن موروث المثاليات. فجاءت لغته جديدة تستمدّ قيمتها ونبلها العفوي والمنكسِر، وصورَها الساحرة من شوارع التشرد وأزقّة الجوع، ومن أحلام الجموع البائسة والشخصيات الهامشية، دون أي وقوع في الإسفاف.
شَعْرَنَ الماغوط أزقّة البؤس وغمَر بالحنان صور البائسات. استدعى أوصافاً ودلالات من خارج الموروث والمألوف. لعب على التضاد بحدّة لم تجرح الحنان. تُفاجئنا عنده وداعةُ الإيقاع وانسيابه وطول أنفاسه، مع حنان اللهجة، لتقديم وحشية الصور وصدمة البؤس وكآبة الساقطات والساقطين في الشوارع الخلفيّة والأحياء الرثّة.
لم يكتفِ الماغوط بالخروج بشعره من القصور ومن تاريخ الشعر وتاريخ مفرداته، بل خرج من جغرافيا الصور والمعاني والألفاظ. استدعى صوراً ورموزاً وإشارات من ثقافة محليّة غير مرئية أو خارج المعايير الشعرية. خرج من التأنّق والتصعيد ومن المبالغات المثالية. يتحرك شعر الماغوط كأنه طالعٌ من قاع المجتمع بعيداً عن كل نخبة. كأنه يتشبّث بالانكسار ولا يشيح نظره عن الخطب والعناوين الحضارية والإنسانية التي اكتشف خواءها. يمزّق بيارق التفاؤل ويسخر من أصوات النّفير، ويعلن الهزيمة المسبقة. وذلك بلا وقوع في التهافت بل في أناقة ولألأةٍ تستدعيان الدهشة.
يخاطب دمشق بهذا النداء:
«دمشق يا عربةَ السبايا الورديّة،
وأنا راقدٌ في غرفتي
أكتب وأحلم وأرنو إلى المارّة
ومن قلب السماء العالية
أسمع وجيبَ لحمك العاري.
عشرون عاماً ونحن ندقّ أبوابك الصلدة
والمطرُ يتساقط على ثيابنا وأطفالنا
ووجوهُنا المختنِقةُ بالسعال الجارح
تبدو حزينةً كالوداع صفراءَ كالسلّ
ورياحُ البراري الموحشة
تنقل نواحَنا
إلى الأزقّة وباعة الخبز والجواسيس
ونحن نعدو كالخيول الوحشيّة على صفحات التاريخ».
(حزن في ضوء القمر)
هكذا بدا في شعره صوتاً وحيداً منهزماً يتمسك بعزلته وهزيمته. لم يكتف الماغوط، في شعره، بالخروج من الحدائق وقضايا العشاق أو المناضلين ولا من مرتفعات التأمل الفلسفيّ. خرج من أدبيات التعالي والفخر المموَّه. خرج من قمم اليوتوبيا التي أقام الشعر فيها مهما تبدلت مواصفاتها. ومنذ البداية، جاء شعره ـ ويا للرسالة الكاشفة ـ مشهديّاً تصويريّاً، تغلب فيه المرئيات والأحوال، والمؤالفات المتضادّة، وهو ما سيتمثّل في مرحلة نتاجه المسرحيّ، منذ سبعينيات القرن الماضي. شعره لم يُغنّ الأنبل والأجمل، بل ذهب يصطاد النبالة في صور الآلام، في الأزقّة، ليرسم تراجيديا الأجساد النسوية والرجولات البائسة، ويغنّي الأرصفة القذرة بجمال عفويّ حارّ فاتن. ويرسم لوحات كأنها من زمن العبودية والانكسار.
«وبكيتُ أنا مزمار الشتاء البارد
ووردةُ العار الكبيرة
وتدفّق الحزنُ حول ياقتي كالنّبيذ».
(حزن في ضوء القمر)
وهو في هذا الانكسار قد ناقض مرايا المألوف في الشعر، وجعل البؤس ترجمانَ النبالة. النبرة المثالية الوطنية، نبرة الاحتجاج والغضب، تدثّرت هنا بفلسفة حزينة الغَضَب ـ إذا صحّ هذا الجمع ـ تُحدّق في تناقضات الواقع ومآسيه، بلغة خرجت من جميع المرجعيات الشعرية والفلسفية والسياسية.
هكذا حضرت في شعره الأجساد النسوية البائسة، في تراجيديا غرائبية ساحرة، حيث الحبّ والهوان، الحبّ والجوع؛ حيث البغايا ضحايا قدّيسات وساقطات. التقط إشارات النّبل حيث لا أوسمة ولا عناوين. وصوّر هذا العالم السفليّ وجماله المطعون غير المرئيّ، بحنان وعفوية. رسم لهذا العالم لوحات ساحرة في جمالها الحزين، مكوّنة من مشاهد يومية مبتذلة، وأحياناً رثّة، وعلاقات حنون، واستدعاءات غريبة عن الموروث، تتمازج جميعها في موكب حزن تاريخيّ:
«أظنُّها من الوطن
هذه السّحابةُ المقبلةُ كعينين مسيحيّتين».
(حزن في ضوء القمر، قصيدة «جنازة النّسر»)
«كعينين مسيحيتين» تستحضر ملكوت الآلام وموروث الأيقونات وصور العذراء وثقافة الحزن، حيث لا صعود إلا بالموت. تحضر هذه الصور الغريبة النبيلة إلى جانب البيارق المنكَّسة وأنهار الشوك والبائسات. لا مجردات، لا ممنوعات، ولا يوتوبيا ومآثر: العالم اليومي المباشر بتفاصيله وجزئياته النافلة، ينهض إلى «ملكوت» الحيارى والمتوحِّدين البائسين. هذا كلّه جاء مفاجئاً لزمن كانت تعلو فيه قصائد الالتزام الوطني والحماسة، من جهة، أو قصائد مشبعة بمناخ اليوتوبيا والفلسفة وأساطير الفداء والموت والانبعاث من جهة ثانية. وكانت هذه الرياح جميعها تهزّ أعمدة التراث وعماده الأول، الشعر.
الصورة في هذا الشعر، وإن كانت مفاجئة فهي، على الرغم من حكائيتها ومشهديتها، وتصويرها الحنون للوحات البؤس، تبقى كاشفة مدهشة تمتح من حقول غير مطروقة، تبتعد عن التجريد والتصعيد، وتستثمر جماليّة التعارض والجمع بين المتنافرات، جمالية المفاجأة والبناء على المفارقات. وفي ذلك يكون الماغوط واحداً ممن قبضوا على تناقضات الحضارة العربية الراهنة وتناقضات العصر، واتّهموا خواء المظاهر وادّعاءات النهوض.

■ ■ ■


الإيقاع، في شعر محمد الماغوط، انسيابيّ هادئ وحتى منكسر وأحياناً رثائيّ مموّه. كأنّ الشاعر وصل ما بعد الهزيمة. أو كأنه يستبق هزيمة 1967 والهزائم التي تلَتْ، بعشر سنوات بل بعشرات السنين. لكنها هزيمة من لا يحارب، ويعلن اليأس من كل حرب. إنه نقد أشدّ من أي نقد مباشر.
هذه ليست الرومنسية المعروفة. كما أنها لا تقترب من غموض النصّ الشعريّ الحديث. والجِدّة هنا، تكمن في الخرق والمفاجأة والمشهديّة ومفارقة المألوف، في القيم وفي جماليات الشعر ومفرداته، وفي اكتشاف الجمال في زوايا البائسين. الجدة هنا تكمن في السياق المتنازل، الرثائيّ، الذي يبدو كأنه صوت التاريخ، أو كأنّ البؤس المزمن هو لون بشرتنا وشكل حضورنا. وهي جدَّةٌ تجيء في سياق عفوي، بلا تهويل أو تعظيم. إنّه هجاء/ حزين، إذا صحّ هذا التلاقي. هجاءٌ مُبتَدَع لمدينة «مزيّفة» أو مدنيّة مزيّفة، لضجيج بلا فعل. أو هي مقلوب يوتوبيا، وهجاء حنون، كاشف لمجتمعات يأخذها البريق بينما يغمر فيها الظلامُ المحرومين. وعبر هذا الجمال المنكسر الكاشف والتمرد الصامت يتمّ بناء الحنان وإرسال شعاع الوعي.

* خصّتنا الناقدة خالدة سعيد بهذه الشهادة عن الماغوط في ذكراه العاشرة، وهي مقاطع مجتزأة من فصل في كتاب لها بعنوان «أفق المعنى» سيصدر عن «دار الساقي».