أيام تثبيت سعر الصرف كانت الأسر تعتمد بشكل كبير على تحويلات المغتربين لتعزيز مداخيلها. فالسياسات التي اتُّبعت في تلك الفترة كانت قائمة على تعزيز نموّ الأرباح على حساب الأجور. حصّة الأجور من الناتج كانت تتقلّص بشكل متواصل، في مقابل نموّ حصّة الأرباح. هذا هو المكوّن الأساسي في نموّ الناتج المحلي الإجمالي والذي نتج منه تشوّهات اقتصادية واجتماعية واسعة يمكن التعبير عنها في الفرق بين المداخيل المتولّدة محلياً، وبين المداخيل المتاحة فعلياً. أما الآن، وبعد انهيار تثبيت سعر الصرف، صار التشوّه أكبر وبات اعتماد الأسر على تحويلات المغتربين مفرطاً جداً. فالمداخيل المتولّدة محلياً، في ظل انهيار الليرة، بالكاد تكفي لسدّ جزء بسيط من حاجات الأسر، بينما الدخل المتاح عبر تحويلات المغتربين صار أكبر، وهذا ما يمكن رؤيته من خلال نسبة التحويلات من الناتج التي ارتفعت من 14.5% إلى37%، ومن خلال زيادة نسبة استهلاك الأسر من الناتج من 80% إلى 120%



في الواقع، تغيّر الدور التي تلعبه تحويلات المغتربين في الاقتصاد اللبناني، فبعدما كانت تلعب دوراً ثانوياً في مساندة الاقتصاد، وكان دورها الأساسي اجتماعياً، أصبحت الآن تُشكّل مصدراً للدخل المتاح لدى الأسر اللبنانية. وبعدما تدمّرت الحركة الاقتصادية الإنتاجية الحقيقية في لبنان، ساهمت التحويلات في إبقاء الاستهلاك اللبناني منتعشاً. فبحسب أرقام صادرة عن البنك الدولي، إن كل مكوّنات الناتج المحلّي ساهمت في انخفاضه في عام 2022، إلا مكوّن واحد هو الاستهلاك. ففي عام 2018 كان الناتج يبلغ 54,902 مليون دولار، ثم انخفض إلى 51,606 مليون دولار في السنة التالية، وبلغ 31,712 مليون دولار في عام 2020، وانخفض إلى 23,132 مليون دولار في عام 2021، و 21,554 مليون دولار في عام 2022، ويقدّر أن يبلغ في نهاية السنة الجارية نحو 17,953 مليون دولار. عملياً، في هذا السياق فإن الناتج سجّل نمواً سلباً في كل أعوام الأزمة، ولا سيما في عام 2020 حين انكمش بنسبة 21.4%، إلا أن الانكماش تباطأ إلى 7% في السنة التالية و2.6% في عام 2022 ويقدّر أن يبلغ 0.5% في عام 2023. التراجع في كل السنوات يعزى بشكل أساسي إلى انكماش الحركة الاقتصادية الحقيقية. لكن بالنظر إلى مكوّنات الناتج، فإن الاستهلاك هو أحد العوامل التي ساهمت في انكماش الناتج بنسب كبيرة على مدى السنوات الماضية، إلى أن تغيّر الأمر في عام 2022 وبدأ يسجّل تباطؤاً في الانكماش. السبب هو أن تضخّم الأسعار وانهيار سعر الليرة لم يسبّب فقط انكماشاً في النشاط الاقتصادي، بل أدّى إلى كبح الاستهلاك، وقد ترافق ذلك مع توقف دعم السلع واستبداله بدعم مباشر عبر آلية تقودها السياسة النقدية هي صيرفة والتعميم 161. عملياً، أدّى ذلك إلى انتعاش نسبي في الاستهلاك، لكن لم يكن ذلك ممكناً من دون تحويلات المغتربين وسائر التحويلات الآتية من الخارج مثل المساعدات للسوريين والمساعدات النقدية الحزبية وسواها.


إذاً، كيف تحسّن الاستهلاك بينما ما زال الوضع الاقتصادي سيئاً؟ للإجابة على هذا السؤال من المهم النظر إلى المصادر الخارجية التي تموّل الاقتصاد. وهي في العادة تأتي من مكانين: الأوّل هو الصادرات، التي لم تشهد تحسّناً بارزاً خلال الأزمة، علماً أن انخفاض قيمة العملة كان يجب، نظرياً، أن ينعكس بشكل إيجابي عليها. أما المصدر الثاني للأموال هي التحويلات من الخارج، التي بقيت مستقرة خلال سنوات الأزمة. ورغم ذلك، أصبحت نسبة التحويلات إلى الناتج المحلّي أكبر مع الأزمة، وذلك لأنها لم تتغيّر كثيراً عن مستويات ما قبل الأزمة، ولأن الناتج المحلّي تقلّص بشكل كبير. ففي عام 2022 بلغت التحويلات من الخارج نحو 37% من الناتج المحلّي، ما يمثّل ارتفاعاً من نسبة 25.6% في عام 2020 و14.5% في عام 2019.
تساهم التحويلات في رفع الدخل المتاح للأسر اللبنانية (دخل الأسر هو المصرّح عنه بينما الدخل المتاح يضاف إليه مداخيل لا تحتسب في الناتج مثل تحويلات المغتربين)، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة التي شهدت انخفاضاً كبيراً في الأجور بعدما خسرت الليرة أكثر من 98% من قيمتها. الملاحظ أنه بعد انهيار القطاع المصرفي، أصبحت التحويلات تدخل بشكل مباشر في الاقتصاد النقدي، وهو أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في ارتفاع حجم الاستهلاك في الاقتصاد. إذ يحتمل البنك الدولي أن يكون النمو في حجم الاقتصاد النقدي (اقتصاد الكاش) في عامَي 2021 و2022 محركاً كبيراً لزيادة الاستهلاك الخاص. ومع أن تقديرات البنك الدولي لحجم الاقتصاد النقدي قد لا تكون دقيقة، إلا أنها أقرب ما لدينا إلى الواقع.
وبشكل عام، تُظهر الحسابات التي اعتمدها البنك أن التحويلات تُشكّل النسبة الأكبر من حجم الكتلة النقدية (بالدولار) المتداولة في السوق، فشكلت في عام 2022 نحو 46% من حجم الاقتصاد النقدي الذي بلغ 9.86 مليارات دولار. بينما في عام 2020، لم يشكّل الاقتصاد النقدي أكثر من 4.5 مليارات دولار. عملياً، زيادة حجم النقد في الاقتصاد يسهم بشكل كبير في زيادة الاستهلاك، وذلك لأن وجود الأموال في يد الأسر بشكل مباشر، في وقت انهارت فيها مداخيلهم، يعني استخدام هذه الأموال في الاستهلاك. وهذا الأمر يعود إلى عاملين:
- العامل الأوّل، هو أنه مع انخفاض القدرة الشرائية لمداخيل الأسر الأساسية، أصبح عند هؤلاء حاجات استهلاكية ناقصة، ما يعني أن توافر التحويلات في يدهم بشكل مباشر يعني أن تذهب هذه الأموال إلى الاستهلاك، وهو ما يسهم في إعادة نمو الاستهلاك المفقود في الاقتصاد

في السنوات السابقة
- العامل الثاني، هو انهيار القطاع المصرفي، وفقدان دوره كحافظ للثروات، إذ تلجأ معظم الأسر اليوم إلى ادخار ثرواتها في المنازل، وهو أمر غير آمن. لذلك، قد يكون استهلاك الحاجيات بديلاً أكثر أماناً عن حفظ الأموال في المنازل، وهو ما يزيد تلقائياً الاستهلاك في الاقتصاد.
من ناحية أخرى، يشرح البنك الدولي أن الزيادة في الاستهلاك الخاص أتت أيضاً بسبب استقرار نشاط القطاع الخاص وزيادة دولرة الأجور، إذ شهدت الأجور تصحيحاً، ولو نسبياً، في قيمتها حيث تحوّل جزء لا بأس به منها إلى الدولار. وهو أمر انعكس بشكل إيجابي على قدرة الأسر على الاستهلاك مقارنة بالسنوات الماضية.
في الماضي كان الاقتصاد اللبناني يعتمد على التدفقات النقدية من الخارج لسد حاجته التمويلية للاستهلاك المحلّي. ولم يتغيّر هذا الأمر اليوم، بل أصبح الاقتصاد أكثر اتكالاً على هذه التحويلات. في السابق لم تكن التحويلات تشكّل الجزء الأكبر من التدفقات النقدية من الخارج، إذ كانت ودائع غير المقيمين هي التي تسد العجز في ميزان المدفوعات، وقد كان هذا الأمر جزءاً من عملية الـ"بونزي" التي قام بها مصرف لبنان على مدى عقود من الزمن، فاستخدم هذه الودائع في تمويل الاستهلاك المحلّي. لكن مع انهيار القطاع المصرفي وفقدان الثقة فيه بعد خسارة المودعين لمليارات الدولارات، شحّ هذا المصدر من التدفّقات، وبقي الأمر محصوراً بتحويلات العاملين في الخارج إلى عائلاتهم في لبنان.
تُظهر أرقام البنك أن التحويلات شكلت في عام 2022 نحو 46% من حجم الاقتصاد النقدي الذي بلغ 9.86 مليارات دولار


لكن ليس البنك الدولي وحده من لاحظ وجود مسار اعتماد مفرط على التحويلات، إذ يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة برنامج الإنمائي (UNDP) إلى تزايد دور وأهمية تحويلات العاملين في الخارج في لبنان، معتبراً أن هناك تحوّلاً ملحوظاً في دور هذه التحويلات في الاقتصاد. وهذا الأمر يدفع نحو التمييز بين الدور الذي لعبته التحويلات قبل الأزمة، عندما كانت توفّر دعماً ثانوياً في الاقتصاد، إذ كانت توفر "الدعم الاجتماعي في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي رسمية شاملة". بمعنى آخر، قبل الأزمة كان الدور الذي تلعبه التحويلات اجتماعياً أكثر من كونه اقتصادياً. لكن بعد بداية الأزمة، أي في عام 2019، تميّز دور تحويلات العاملين في الخارج بكونه اقتصادياً واجتماعياً. إذ أصبحت هذه التحويلات تُشكّل ثقلاً وازناً في الاقتصاد اللبناني، وتسهم في سدّ فجوة ميزان المدفوعات بشكل أساسي بعد غياب مصادر التدفقات النقدية الأخرى. هذا الأمر حال دون حصول انهيار اقتصادي أكبر، إذ يُمكن وصف سيناريو عدم الحصول على هذه التحويلات بالكارثي. فمن دون التحويلات لا يتوفّر مصدر لسداد فاتورة الاستيراد الكبيرة التي يعتمد عليها اللبنانيون في استهلاكهم، ومن ناحية أخرى تساهم هذه التحويلات في حفاظ الليرة اللبنانية على بعض من قيمتها بسبب توفيرها للدولار في السوق وإشباع جزء من الطلب عليه. بشكل عام ساهمت التحويلات في الحفاظ على قدرة الأسر اللبنانية على تأمين حد أدنى من الاستهلاك الأساسي، وهو الذي تضرر بشكل كبير بعد انهيار قيمة الليرة.