لا يبدو انتقال الاقتصاد العالمي من أزمة إلى أخرى، خاضعاً فحسب لمنطق التقلُّبات الرأسمالية، المعتادة. فهذه الأخيرة، لطالما حكَمَت تعاقُب دورات الركود والتضخُّم وسواها من اختناقات رأس المال الدولي. رغم ذلك، لم يصل بها الأمر، إلى الحدّ الذي وصل إليه اليوم، مع التهديد الذي أصبح يطال حتى الإنفاق الحكومي والفيدرالي في المركز الرأسمالي الذي تمثّله الولايات المتحدة. أزمة سقف الدين الحكومي الأميركي بهذا المعنى، والتي انتهت جزئياً منذ أيّام، لم تعد أزمة دورية في الاقتصاد هناك، كما كانت سابقاً، بل أصبحت امتداداً، ليس فقط لاختناقات النظام المتكرِّرة بوتيرة متزايدة، بل أيضاً، للعجز عن التكيُّف مع انخفاض معدّل الربحيّة، على المدى البعيد. فالاكتتاب في سندات الخزانة الأميركية لتمويل الإنفاق عبر الدين السيادي، لم يكن مشكلة بالنسبة إلى اقتصاد الولايات المتحدة، حين كانت التقلّبات الرأسمالية محكومة بقدرة الاحتياطي الفيدرالي على التحكّم الكامل بالاختناقات الدورية لرأس المال. أي عندما كانت القدرة أكبر على احتواء التضخّم، والانتقال منه إلى الركود بسلاسة، قبل معاودة الوقوع فيه مجدداً، مع خفض أسعار الفائدة، لتحفيز النموّ.
أنجل بوليغان- المكسيك

طبيعة أزمة السيولة
السياسات النقدية حينها، كانت مسنودةً بطاقةٍ إنتاجية كُبرى. فحينما يحصل تضخّم ويبادر الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة، تكون السيولة المسحوبة من الأسواق، حاصلَ عملٍ وإنتاجٍ فعليَّين، وبالتالي يَسهُل ضخُّها في الجهاز المصرفي، للوصول بالتضخُّم إلى النسبة المُبتغاة لاستمرار النموّ أو عدم إعاقته. هذا لم يكن يتطلّب من المركزي الأميركي، سوى دورة أو اثنتين من رفع أسعار الفائدة، مع كلّ ما يعنيه ذلك، من تفادٍ لحصول اضطرابات، ليس فقط في أسواق السلع والخدمات، بل أيضاً في أسواق الائتمان.
حصول العكس، أي عدم قدرة الرفع المتكرّر للفائدة على احتواء التضخُّم، هو بمثابة تعبير عن عدم التناسب الحاصل بين السيولة التي جرى ضخّها بُعَيد أزمة الإقفال، وحجم الإنتاج الفعلي الذي تضرَّر كثيراً من الأزمة، في ضوء الانهيارات التي حصلت في قطاعات النقل والسياحة والخدمات. الأموال التي أَغرَقَت الشركات وحتى الأفراد، وأوصَلت الطلب إلى مستويات قياسية، كانت من دون تغطية فعليّة بعملية الإنتاج، وهو ما عطّل الآلية التقليديّة لمعاودة سحبها، والمتمثّلة بسياسة أسعار الفائدة. اضطرَّ ذلك الاحتياطي الفيدرالي، ليس فقط لتشديد السياسة النقدية كالعادة، بل لإيصالها إلى حدود تقشُّفية غير مسبوقة، بغية الانتهاء من كلّ السيولة التي ضُخَّت في المرحلة السابقة. هذا ما جعَلَ الوصول إلى العتبة المطلوبة، محفوفاً بمخاطر ركود كبيرة، نظراً إلى حجم السيولة التي جرى سحبها، ولكن من دون أن ينعكس ذلك، إيجاباً، كالعادة، على ملاءة القطاع المصرفي. فمع ارتفاع معدَّل أسعار الفائدة، على نحو قياسي، تعقّدت المشكلة أكثر بالنسبة إلى المصارف، إذ بدلاً من خفض الإنفاق على السلع والخدمات، لتذهب السيولة المسحوبة باتجاهها، انخفضت فجأةً، ليس فقط، أرباحُها المحقّقة، بل أصولها أيضاً. على إثر ذلك، بدأت سلسلة إفلاساتها التي لم تنتهِ تداعياتها بعد، والتي وسّعت نطاق التقلّبات الرأسماليّة، لتشمل ليس فقط أسواق السلع والخدمات، بل أيضاً أسواق الائتمان، وصولاً حتى إلى أسواق السندات حيث يقع الدين السيادي الأميركي، ضمن نطاقها، البعيد.

مصدر الثقة بأُذون الخزانة الأميركية
ما حصل فعلياً، خلال التفاوض بين إدارة بايدن والقيادة الجمهورية لمجلس النواب على رفع سقف الدين، هو أبعد من مجرّد حلّ لأزمة دورية. المقايضة التي حدثت بين الطرفين وسمحت بالوصول إلى اتفاق مبدئي على رفع سقف الدين، للاستمرار في الاقتراض، بَدَت كأنها استمرار لأزمة سابقة أكثر منها إنهاء لأزمة قائمة. فالمشكلة التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي حالياً، ليست في الإنفاق عبر الدين السيادي بحدّ ذاته، بمقدار ما تكمن في منع التقلّبات الرأسمالية الشديدة التي وصلت إلى أسواق الائتمان، من الانتقال إلى سوق السندات التي تغذّي عصب الاقتصاد الأميركي عبر الإنفاق الفيدرالي.
بمجرّد أن تطول الأزمة أكثر من اللازم وتبدأ وزارة الخزانة بالتلويح بالإفلاس الفيدرالي نصبح فعلياً في عين العاصفة لجهة الانكشاف على التقلُّبات وإمكانية حصول اضطرابات في «سوق السندات السياديّة»


الخشية التي عبّرت عنها وزيرة الخزانة جانيت يلين قبل يومين من الوصول إلى الاتفاق، مرتبطة بهذا الأمر، أكثر من ارتباطها، بالخوف من تعطّل الوظائف الحكوميّة، حتى لو لم تَقُل ذلك، علَناً. صحيح أنّ سندات الخزانة، هي إصدار حكومي، ولا علاقة مباشِرةً لها، بالتقلُّبات التي تحصل في الأسواق التي ينشط فيها القطاع الخاصّ الأميركي والعالمي، ولكن الاكتتاب فيها، من جانب دول مثل الصين واليابان وسواهما، هو بمثابة سوق فعليّة. وهذا يعني أنّ الطلب من هذه الدول على السندات الحكومية هناك، يتأثر بالتقلّبات الحاصلة في أسواق القطاع الخاصّ الأميركي، سواءً لجهة السلع والخدمات، أو الائتمان. إذ لطالما كان الاستقرار في حجم الطلب على أذون الخزانة الأميركية، مرتبطاً بعامل الثقة الدولية في قدرة الاقتصاد الأميركي على تحقيق معدّلات أرباح قياسيّة ومنتظمة، ولا سيّما في القطاعات التي كانت معروفة بربحيّتها العالية، قبل انتقال التقلُّبات إليها، أخيراً. فُقدان الثقة في هذه القدرة، على ضوء تزايد حدّة التقلُّبات الرأسمالية، لا يَجعل الطلب على السندات الحكومية أقلّ فحسب، بل يهدِّد أيضاً، استمرار عمل المؤسّسات الفيدراليّة التي يموّل الدين السيادي، إنفاقَها. في هذه النقطة أعربت يلين عن قلقها بوضوح شديد، ولكن من دون ربطها بما يحصل في الأسواق الرأسمالية داخل الولايات المتحدة، لجهة كونها بوليصة التأمين الفعلية، على استمرار التدفّقات الرأسمالية الخارجية، بتغذية الدين السيادي.

حقيقة «التعافي» الحالي
حتى الآن، لا يزال الدين السيادي بمنأى فعلياً، عن التقلّبات الحاصلة في أسواق الخدمات والسلع والائتمان، بدليل الاتفاق الذي حصَل بسرعة، بموجب مقايضة ديموقراطية جمهورية، بين زيادة السقف لمدّة عامين وخفض الإنفاق الحكومي على نحو ملحوظ. التلويح من وزارة الخزانة بنفاد الأموال قبل الخامس من يونيو- حزيران، سرَّع من وتيرة حصول الاتفاق، بعدما كان الطرفان متشبّثَين بشروطهما، لجهة إصرار الجمهوريين على خفض الإنفاق لرفع السقف، وردّ الإدارة بالفصل بين الأمرين، وعدم الاشتراط على رفع السقف.
السجال كان حامياً، و تمحوَرَ في معظمه، حول المنظور الذي يحمله كلّ طرف للسياسات الاقتصادية الواجب اتّباعها، ليس فقط تجاه أزمة الدين، بل أساساً، تجاه وجهة الإنفاق، وما إذا كان من المناسب الاستمرار في توسيعها أم لا. هنا، بدا الجمهوريون، أقرَبَ، كالعادة، إلى سياسات التقشُّف وخفض الإنفاق، بينما تمسّكت الإدارة حتى اللحظة الأخيرة بالوجهة الخاصّة بتوسيع الإنفاق الاجتماعي، قبل أن تتنازل لخصومها، مضطرّةً، خشيةَ الوصول إلى لحظة العجز عن السداد. على أنّ التسوية هنا ليست هي الحلّ فعلياً، لأنّ المشكلة ليست في الإنفاق الحكومي بحدّ ذاته، ولا حتى في سداد الديون والالتزامات للخارج في آجالها الزمنية، بقدر ما هي في بنية الدين السيادي ذاته. فقد أصبح هذا الدين، مع ازدياد حدّة التقلبات الرأسمالية، ذا طبيعةٍ هشّة، وبات أكثر عرضةً من ذي قبل، لوصولها إليه ما إن تزول الفواصل بين الأسواق التي تنهار بسببها.
والحال أنّ سرعة التدخّل من وزارة الخزانة، عبر التلويح للطرفين بشبح الانهيار، قد أنْهَت هذه الإمكانية، أقلّه لمدّة سنتين، وهو تاريخ العمل بالسقف الجديد، بحسب الاتفاق. في هذه الفترة سيُستَأنف الإنفاق الحكومي والفيدرالي، وستستعيد الأسواق بعضاً من الثقة التي فقدتها مع ظهور أزمة سقف الدين، ولكن ليس إلى الحدّ الذي يجعل الاقتصاد الأميركي معافى تماماً. فالركود لا يزال يلوح في الأفق، مع استمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة. وهي السياسة التي أفضَت مع تجاوزها للمعدّل المعتاد، إلى انهيارات كبرى في أسواق الائتمان، ما قادَ إلى سلسلة من التدخّلات الحكومية، لا تقلّ شأناً عما جرى في أزمة سقف الدين، لجهة محاولة كبح التقلّبات، حتى لا تنتقل إلى أسواق أخرى، وتهدِّد بالمزيد من الانخفاض في الربحيّة الرأسمالية.

إمكانية انتقال التقلُّبات إلى سوق السندات
عدم الإتيان على ذكر التقلُّبات، سواءً في تصريحات وزارة الخزانة، أو في خطابات الجمهوريين وإدارة بايدن، لا يعني غيابها عن سياق الأزمة الحالية، بقدر ما يعبّر عن الحرص على إخفاء ما يتعرّض له الاقتصاد الأميركي من خضّات في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة والحَرِجة. فالتركيز حالياً، بعد الانتهاء، مرحلياً، من أزمة سقف الدين، سيكون على الاستمرار في مكافحة التضخُّم، بحيث يصل إلى النسبة التي حدَّدها الاحتياطي الفيدرالي عند الـ 2%، ليحصل «انتقال سلس» إلى الركود، قبل معاودة خفض أسعار الفائدة مجدداً. هذا لن يحدث، غالباً، من دون ازدياد في معدّل التقلّبات الرأسمالية، وهو ما شهدناه، حتى في أزمة سقف الدين، البعيدة جزئياً عن اضطرابات الأسواق، على اعتبار أنّ الأدوات النقدية لم تعد قادرة على منع معدّل الربحيّة الرأسمالي، من الانخفاض. ما أضافته أزمة سقف الدين إلى هذا السياق، هو انكشاف الدين السيادي أكثر فأكثر على التقلّبات الرأسمالية، حتى لو لم يُؤتَ على ذكر ذلك، علناً. فبمجرّد أن تطول الأزمة أكثر من اللازم، وتبدأ وزارة الخزانة بالتلويح بالإفلاس الفيدرالي، نكون قد أصبحنا فعلياً، في عين العاصفة، لجهة، ليس فقط الانكشاف على التقلُّبات، بل أيضاً، إمكانية حصول اضطرابات في «سوق السندات السياديّة»، أُسوةً بسواها من الأسواق التي «انهارت» جزئياً أو كلياً، قبل أن تتدخّل المؤسّسات الفيدرالية، لإنقاذها.