يختبر المقيمون في لبنان وضعاً اجتماعياً مُزرياً سببه وجود شبكة حماية اجتماعية مهترئة لا تشمل جميع اللبنانيين وغير قادرة على الاستمرار في العمل خلال الأزمات. فعلى الصعيد الصحّي، فإن الشبكة القائمة عبر المؤسّسات الضامنة المختلفة، لا تغطّي أكثر من 50% من اللبنانيين، ما نقل الوضع الصحّي من وضع سيّئ قبل الأزمة إلى وضع كارثي بعدها. وعلى الصعيد الغذائي والمعيشي، حُصر الأمر بتقديمات نقدية شهرية زهيدة للعائلات الأكثر فقراً وفق آلية معرّضة للاستغلال السياسي وتدور الشبهات حول معاييرها، لا بل أصبحت هذه التقديمات بلا قيمة بعد تدهور قيمة الليرة. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على التعليم والسكن والنقل وسواها. في النتيجة، يعيش اليوم أكثر من 80% من الشعب اللبناني في حالة الفقر المتعدّد الأبعاد، وفق تصنيف منظمة «إسكوا». هذا المؤشّر للفقر، لا يشمل احتساب المدخول الأسري فحسب، بل الخدمات التي تستطيع الأسر الحصول عليها من طبابة وتعليم وطاقة ومياه نظيفة وصرف صحّي. هذا الرقم يعني أن 80% من اللبنانيين لديهم نقص في بعدين على الأقل بمعزل عن درجة الفقر في كل بعد. وقد أصبح الاستشفاء والطبابة خدمات بعيدة المنال عن جزء كبير من الشعب اللبناني، بسبب ارتفاع كلفتها بشكل هائل، وغياب برامج الحماية التي يفترض أن تنتشل المواطن في هذه الحالات. كما تذكر تقارير «اليونيسف» أن 3 من أصل كل 10 أولاد في لبنان ينامون من دون طعام. وهذا منحى آخر يظهر مدى هشاشة نظام الأمن الاجتماعي في لبنان، الذي يفترض أن يكون دوره الأساسي خلال هكذا فترات. وهذا الوضع الصعب يعاني منه اللبنانيون أيضاً في ما يخص الحصول على الطاقة الكهربائية التي تضاعفت أسعارها مع رفع الدعم عن المحروقات.
يفترض أن تكون الحكومات جاهزة بشبكات أمان اجتماعية تحتوي صدمات الفئات الأكثر هشاشة أو الأكثر عرضة للانزلاق تحت خطَّي الفقر والفقر المدقع


وفي أوقات الأزمات، عندما لا يكون هناك أي شبكات أمان تحمي الأسر من التداعيات على نوعية حياتهم وعلى أمنهم الغذائي والصحي، تكون الأسر مجبرة على تعديل في جدول الأولويات واتخاذ إجراءات استثنائية لمجاراة الأوضاع المعيشية في سبيل البقاء على قيد الحياة. هكذا تصبح المفاضلة بين التعليم والغذاء. تبدية الغذاء على تعليم الأولاد تصبح أمراً ذا أولوية. فمن الإجراءات المتخذة التخلّي عن الأمور التي تصنّفها الأسر أقل أساسيةً مثل الادّخارات والأصول والذهب والتعليم، وفي المقابل يصبح من الأولويات زيادة ساعات عمل أفراد الأسرة حتى لو كان ذلك عبر عمالة الأطفال، وصولاً إلى التخلي عن أجزاء من الغذاء اليومي، مثل التخلّي عن وجبات أو تقليل الكمية المستهلكة.
لتلافي الوصول إلى هذا الوضع، يفترض أن تكون الحكومات جاهزة بشبكات أمان اجتماعية تحتوي صدمات الفئات الأكثر هشاشة أو الأكثر عرضة للانزلاق تحت خطَّي الفقر والفقر المدقع. هذه الشبكات هي عبارة عن سياسات وبرامج توفّر نوعاً من الدعم بطريقة مباشرة عن طريق تأمين مدخول نقدي، أو غير مباشرة عبر تقديم الخدمات بشكل مجاني أو بأسعار مدعومة. وهذا الدعم يستهدف الفئات الأكثر عرضة للمخاطر، أي الفئات الأكثر فقراً وحاجةً، على أن يكون دعماً مقدّماً من الدولة حصراً تُرسم سياسته بحسب أهداف مقرّرة مسبقاً تُراوح بين احتواء تداعيات الأزمة ضمن المدى القصير والمنظر، وبين الأهداف الطويلة المدى مثل التخلّص من الفقر. وتكون هذه الشبكات جزءاً من استراتيجية إعادة توزيع الثروة من خلال جباية الضرائب بشكل تصاعدي.

نماذج من 4 دول

بيرو: من 7% إلى 20% من الناتج
نُفّذ العديد من برامج شبكات الأمان الاجتماعي في بيرو بعد الصدمات الاقتصادية في مطلع التسعينيات مثل أزمة الـ«تيكيلا». قبل الألفية، كانت أهداف غالبية البرامج لتوفير حدّ أدنى مؤقت من الدعم لأولئك الواقعين تحت خط الفقر المدقع من دون الاهتمام بالاستراتيجيات الطويلة المدى لإدارة المخاطر والحدّ من الفقر عموماً. إلا أنه بعد الألفية، تحوّل تركيز الحكومة من البرامج إلى تنمية رأس المال البشري.
في عام 1998 كان إنفاق بيرو الاجتماعي يبلغ 7% من الناتج المحلي الإجمالي، 20% منه مخصّصة للخدمات الاجتماعية الأساسية. فهي واجهت الفقر الناتج من الأزمات المتتالية في التسعينيات من خلال برامج عدة متكاملة. فعلى سبيل المثال، يرعى الصندوق الوطني للتعويضات الاجتماعية وجبات الإفطار المدرسية، والإضاءة المنزلية، والملابس لأطفال المدارس، والبنى التحتية الاجتماعية والإنتاجية، وأنشطة دعم الإنتاج المنزلي. ويرعى البرنامج الوطني للمساعدة التغذوية تغذية طلاب المدارس، وغرف الطعام المجاني الاجتماعية، والأعمال المجتمعية الصغيرة، ودعم التسويق لأصحاب المشاريع الزراعية. بالإضافة إلى برامج التوظيف، التي تعمل مع وزارة الزراعة مثلاً، والهادفة إلى تحسين الأراضي الزراعية، وتوفير الحماية البيئية للزراعة المستدامة. بالإضافة إلى برنامج تطوير البنى التحتية الصحية والتعليمية في المناطق الريفية.

محدودية إندونيسية
كانت البرامج التي تصنف جزءاً من شبكة الأمان الاجتماعي في إندونيسيا، محدودة جداً، لاعتقاد صانعي السياسات هناك بأن النموّ الاقتصادي سيكون كافياً للتخلّص من الفقر، وأنه لن تكون هناك حاجة إليها. إلا أن الأزمة الاقتصادية التي ضربت دول شرق آسيا في نهاية التسعينيات، أجبرت إندونيسيا على تحويل مواردها إلى هذا النوع من البرامج وفق الأهداف الآتية: 1) الحفاظ على الأمن الغذائي، 2) زيادة التوظيف، 3) الحفاظ على وصول الأسر إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية.
أنفقت الحكومة في عام 1998 ما يوازي 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي على البرامج الاجتماعية. معظم هذا الإنفاق كان على برامج غذائية مثل برنامج دعم الأرزّ، بالإضافة إلى برنامج لدعم المحروقات. وبالتوازي مع هذا الأمر قامت الحكومة بإنشاء برامج تهدف إلى خلق فرص عمل أنفقت عليها نحو 1% من الناتج المحلي. أحد هذه البرامج كان يستهدف المناطق الحضرية وشبه الحضرية لخلق فرص عمل لنحو 54 ألف عامل. كما أطلقت الحكومة برامج لتحسين البنى التحتية في المناطق الحضرية والريفية، أيضاً بهدف خلق فرص عمل. وأخيراً أنفقت الحكومة على برامج التعليم، مثل «حملة البقاء في المدرسة» بهدف منع خروج الأطفال من المدارس، بالإضافة إلى المنح الدراسية التي طاولت شريحة الـ40% الأفقر في المجتمع.

برامج طويلة الأمد في المكسيك
يُنظر إلى شبكات الأمان الاجتماعي في المكسيك على أنها آليات طويلة الأمد تهدف إلى مساعدة الناس على تحسين أوضاعهم والتخلص من الفقر وعواقبه. لهذا السبب، حصل تحوّل في أواخر التسعينيات من برامج تحويلات الدخل الخالصة إلى التحويلات المشروطة باستثمار المستفيدين في رأس المال البشري (برامج التنمية البشرية المستهدفة). كذلك، كان هناك تحوّل من دعم المواد الغذائية المعمّم نحو دعم المواد الغذائية الذي يستهدف الفئات المحتاجة. بالإضافة إلى برامج لتحقيق توازن أكبر بين المناطق الحضرية والريفية. وقد ترافقت هذه التغييرات مع زيادات مطّردة في الإنفاق الاجتماعي على مدى التسعينيات، حيث وصلت إلى حد أقصى تاريخي في عام 2000 بلغ 9.6% من الناتج المحلي الإجمالي. في الوقت نفسه، حدث تغيير كبير أيضاً في نقل المسؤوليات من الحكومة الفيدرالية إلى حكومات الولايات والبلديات. وأصبحت التحويلات الفيدرالية إلى حكومات الولايات والبلديات أكثر شفافية، وتم اتخاذ خطوات لتقليل السلطة التقديرية للوكالات الفيدرالية المسؤولة عن البرامج الاجتماعية، وزيادة الشفافية والمساءلة، وتقييم البرامج الاجتماعية بطرق أكثر منهجية.

بنية متينة في كوريا الجنوبية
تملك كوريا الجنوبية العديد من برامج الرعاية الاجتماعية منذ منتصف الثمانينيات. وهي تأتي تحت ثلاثة عناوين:
1- برامج التأمين الاجتماعي بما في ذلك التأمين ضد البطالة، وأنظمة التقاعد، والتأمين الطبي، وبعضها يقدم مخصّصات خاصة للفقراء.
2- برامج المساعدة العامة التي تركّز بشكل حصري على الفقراء والمهمّشين.
3- برامج الخدمات الاجتماعية مثل برامج التغذية التكميلية والتدريب المهني لذوي الإعاقة.
لذلك، خلال الأزمة المالية في نهاية التسعينيات، كانت كوريا تتمتع ببنى تحتية متينة لشبكة الأمان الاجتماعي، فلم يكن عليها إلا أن تزيد الإنفاق في البرامج الموجودة أصلاً من أجل مواجهة الأزمة الطارئة. فقد رفعت الإنفاق على هذه البرامج ثلاث مرات في عام 1999 إلى ما يوازي 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما كان 0.6% في عام 1997. وكانت الزيادة في الإنفاق من نصيب التأمين ضد البطالة بشكل أساسي لتوسيع قاعدته وشمول العمال المياومين والعمال المؤقّتين. فقد ارتفع عدد المستفيدين من هذا البرنامج من 18 ألفاً في كانون الثاني 1998 إلى 174 ألفاً في آذار 1999. كما أنفقت الحكومة الكورية على برامج الأعمال العامّة، وهو برنامج يهدف لإقامة المشاريع من أجل خلق وظائف جديدة. بلغ عدد الموظفين في هذا البرنامج 437 ألفاً في بداية عام 1999.