«التصحيح» هو التوصيف الأقرب إلى الواقع الذي يمكن استنتاجه من تطورات الوضع الاقتصادي ومؤشراته المقارنة بين عام 2019 واليوم. إلا أن هذا التصحيح لا يحصل بشكل مدروس ومخطّط له وفق قواعد واضحة، بل يجري إرساؤه بشكل عشوائي تجسيداً لما يُطلق عليه «السوق الحرّة»، بمعاييرها المتوحّشة. ورغم أن الرأسماليين يروّجون لعملية التصحيح أثناء الأزمات باعتبارها أمراً «صحيّاً» يُبنى على قواعد السوق والمنافسة، إلا أن هذا الأمر يخفي عمداً تبعات التصحيح على المجتمع والتغيرات الجذرية التي تطرأ عليه بسبب عملية التصحيح «السوقية». وهذا الأمر يحصل في الاقتصادات الرأسمالية بشكل عام، إنما عندما تكون الرأسمالية متوحّشة إلى أقصى حدود التطرّف، كما هي عليه في لبنان، فإن النتائج تكون أكثر وضوحاً وأكثر قساوة. صحيح أن المؤشرات الاقتصادية، تُظهر أن الأرقام في لبنان تتجّه نحو المسار السليم لجهة تقلص العجز في الحساب الجاري، لكنها تخلّف سحقاً لطبقات اجتماعية واسعة. «التصحيح» يأتي على حساب توسيع الفوارق بين الطبقات الميسورة وتلك الفقيرة، فضلاً عن الهجرة والاعتماد على مواردها بشكل أساسي، أي تحويلات المغتربين.
المصدر البنك الدولي | أنقر على الصورة لتكبيرها

يتوقّع البنك الدولي أن تبقى معدلات التضخّم مرتفعة في عام 2023. تقديراته أن معدّلها السنوي سيبلغ 165% مقارنة مع 171% في السنة الماضية و154% قبلها و84% في عام 2020. ومسار التضخّم هذا، متراكم على مدى السنوات الخمس الماضية، إذ إنه يأتي مدفوعاً بتدهور قيمة العملة المحلية مقارنة بالدولار من 1507.5 ليرة مقابل الدولار إلى 94500 ليرة اليوم. وهذا المؤشّر لا يعبّر فقط عما اكتنزته الأسعار من زيادات بل يشير أيضاً إلى اتجاه المسار العام للتصحيح الجاري والذي يمّر حتماً بعلاقات لبنان مع الخارج، أي المؤشرات الخارجية مثل ميزان المدفوعات والحساب الجاري. فالارتفاع في الأسعار يُسهم في كبح الاستهلاك لدى الجزء الأكبر من المجتمع ويؤدي إلى انكماش الاستيراد الذي يدفع ثمنه لبنان بالعملة الأجنبية، أي إنه يخفّض التدفقات الخارجية للعملات الأجنبية. وهذا ما ينتهي إلى نتيجة واضحة في المؤشرات الخارجية: انخفاض في الحساب الجاري. لكن هذه المقاربة المالية لا تأخذ في الحسبان سوى الأرقام لتحليلها ودراستها، من دون أن تنظر إلى النتائج التي ستقع على المجتمع. فانخفاض الاستهلاك، لا يعني فقط أن المحفّز الأكبر للناتج المحلي الإجمالي انكمش بدرجة كبيرة وبالتالي انخفاضاً في الأعمال عموماً، إنما يشير أيضاً إلى أن الشريحة الكبرى من المجتمع فقدت جزءاً مهماً من قدراتها الشرائية لمواصلة المعيشة. وهذا الأمر يطال الصحة والتعليم والغذاء، التي تخطّى الارتفاع في أسعارها عتبة الـ1500% منذ بداية عام 2019.

اتّساع الهوّة
بشكل عام، مع انخفاض حجم التدفقات النقدية التي تدخل البلد، وعدم قدرة مصرف لبنان على التدخّل للحفاظ على سعر الصرف بسبب استنفاد الاحتياطات بالعملات الأجنبية، من الطبيعي أن تنخفض قيمة العملة المحلية بشكل يوازي بين العرض والطلب. هذا «التصحيح» التلقائي في العرض والطلب، يعني انخفاض قيمة العملة المحلية إلى مستوى ينخفض معه الطلب على الدولار بالشكل الكافي ليصبح متوازياً مع حجم المعروض النقدي من العملة الخضراء في السوق. وبهذه العملية، يأتي التصحيح على حساب من ينخفض طلبه على الاستهلاك. وهؤلاء، في الحقيقة، هم الأشخاص الذين تُشكّل الليرة اللبنانية الجزء الأكبر من مداخيلهم.

2.5 مليار دولار

هو حجم الأرباح التي جناها المستفيدون من منصة صيرفة منذ إنشائها بحسب أرقام البنك الدولي


في المقابل، تبقى القدرة الشرائية مرتفعة في يد المستفيدين من التدفقات المالية الآتية من الخارج. وهم الأشخاص الذين يُشكّل الدولار، بشكل أساسي، الجزء الأكبر من مداخيلهم. وتُشكّل تحويلات المغتربين حصّة أساسية من هذه التدفقات، إذ يتوقّع أن تبلغ بحسب تقديرات البنك الدولي الجديدة نحو 6.8 مليارات دولار في عام 2023. عملياً لم يرتفع هذا الرقم بشكل كبير عن السنوات التي سبقت الأزمة بمتوسط 6.5 مليارات دولار بين عامَي 2012 و2021. إلا أن ما تغيّر فعلياً هو حصّتها من الناتج المحلّي لترتفع من متوسّط 13% بين عامي 2012 و 2019، إلى 19.8% في عام 2020، 26.4% في عام 2021، و 31.7% في عام 2022 على التوالي، وفق أرقام البنك الدولي الأخيرة.
يُعزى ذلك إلى تقلّص حجم الاقتصاد منذ بداية الأزمة. فقد انخفض الناتج المحلّي بشكل كبير ومتتالٍ منذ عام 2019 حتى اليوم. ففي عام 2019 كان حجم الناتج يبلغ 51.6 مليار دولار، والآن يقدّره البنك الدولي بنحو 17.9 مليار دولار لعام 2023، أي ما يمثّل انكماشاً تراكمياً بنحو 66%. هذا الانخفاض في حجم الاقتصاد مقارنة مع الارتفاع البسيط في حجم التحويلات يعني أن هذه التحويلات باتت هي المحرّك الأساسي للاقتصاد. بمعنى آخر، أصبحت الأطراف التي تنتهي هذه التحويلات في أيديها هي المستفيدة الأكبر في الدورة الاقتصادية. والحديث هنا ليس عن الأسر التي تستلم التحويلات الشهرية البسيطة، إذ إن هؤلاء يقومون باستهلاك هذه التحويلات بشكل فوري، لكن المقصود هو أن هذه الأموال تصبّ في جيوب أصحاب الرساميل من كبار التجّار والمؤسّسات التي تستفيد من استهلاك هذه الأسر. بشكل عام توسّعت الهوّة بين الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية، والسبب الأساسي خلف ذلك هو حصّة كل طرف من النقد الأجنبي الموجود في الاقتصاد.

لا تدخّل رسمياً
في أوقات الأزمات، يكون تدخّل الدولة محورياً في الاتجاه الذي يسلكه الاقتصاد بعد ذلك. إلا أن الحاجة الأمسّ للتدخل تكون في دعم الأسر المتضررة بشكل كبير من الأزمة، وهي الأسر التي هبطت إلى ما دون خط الفقر. وخلال الأزمة، كان دور الدولة بجميع أفرعها، التنفيذية والتشريعية والنقدية، سلبياً. فالتدخّل الاقتصادي لم يكن موجوداً، وقد تُرك مسار الانهيار ليعمل بشكل طبيعي، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك توسّع الهوة المذكور سابقاً. كما لم يكن هناك أي تدخّل لحلّ أُسس المشكلة التي بنيت عليها الأزمة، وهي الحاجة المزمنة للتدفقات النقدية من الخارج لتغطية العجز في الميزان التجاري. وهذا الأخير بقي مرتفعاً، إذ بلغ حجمه نسبة إلى الناتج المحلّي نحو 46.8% في عام 2022 ويتوقّع البنك الدولي أن يبقى مرتفعاً في عام 2023 حيث يُقدّر أن يبلغ 41.4% من الناتج المحلّي. هذا مؤشّر يوضح أن تدخّل الدولة لحل المشكلات على صعيد الاقتصاد الكلّي لم يكن موجوداً.

اقتصر التدخّل من قبل الحكومة ومصرف لبنان على إجراءات موضعية تركّز مضمونها في توسيع الهوّة بين الطبقات


اقتصر التدخّل من قبل الحكومة ومصرف لبنان على الإجراءات الموضعية وغير المدروسة التي هدفت، بالشكل، إلى تخفيف حمل الأزمة عن المجتمع، إنما تركّز مضمونها في توسيع الهوّة بين الطبقات. إذ إن هذه الإجراءات ساهمت في إعادة توزّع ما تبقّى من ثروة موجودة بيد مصرف لبنان بشكل غير عادل. فعلى سبيل المثال، ساهم الدعم الحكومي الذي اتّخذته الدولة في بداية الأزمة عام 2020، بتبديد نحو 12 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان على سلع مختلفة (الرقم وفق مصادر مطلعة من مصرف لبنان). في الواقع، لم يستفد المجتمع إلا من جزء صغير من هذا الدعم، في حين صبّ جزء لا يُستهان به في جيوب التجّار الذين استغلّوا هذا الإجراء بهدف الاحتكار والتهريب للحصول على الربح السريع والفوري (arbitrage). لكن مصرف لبنان والحكومة لم يكتفيا من ذلك، فعمدا إلى خلق قنوات توزيع للثروة تدمج بين التدفقات الآتية من الخارج، وبين الاحتياطات. من أبرز هذه القنوات منصّة صيرفة والتعاميم المرافقة لها، والتي استخدمها مصرف لبنان لدعم رواتب موظفي الدولة. فاستخدمت المنصّة لإعادة توزيع الدولارات المتدفقة من الخارج إلى شرائح مختلفة في لبنان. القسم الأكبر من هذه التدفقات حطّ بيد التجار، لكنها كانت في الوقت نفسه متنفّساً للعاملين في القطاع العام الذين لم تعمد الدولة إلى تصحيح رواتبهم إلا بشكل ترقيعي ومتواضع قياساً على التضخّم المسجّل. تحت غطاء دعم رواتب القطاع العام، كانت صيرفة أداة لتوزيع الثروة بشكل غير عادل، إذ استفاد منها فئات معينة، تقع في دائرة مصرف لبنان ومجالس إدارات المصارف والتجار، من الأموال التي «وزّعها» المركزي بشكل مجاني.

تعليم واستشفاء للأثرياء
سحق الطبقات في المجتمع بات ظاهراً للعيان في مجالات مختلفة من أبرزها التعليم والاستشفاء. فمع دولرة كلفة الاستشفاء ليصبح 70% منها مسعّراً بالدولار النقدي، انهارت صناديق التغطية الصحية وأكبرها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة والصناديق العسكرية، وصناديق الأساتذة والتعليم والمهن الحرة. مداخيل الصناديق لم تعد كافية لتغطية 20% من كلفة الاستشفاء بينما كانت تغطّي في السابق نحو 90% منها. لذا، فإن الحصول على التغطية الصحية بات محصوراً بشرائح معينة، بينما الشرائح الأخرى تجد صعوبة في الحصول على الحدّ الأدنى. روّاد المستوصفات والبعثات المجانية ازدادوا بنسب كبيرة في السنوات الأخيرة. والأمر نفسه ينطبق على التعليم، إنما بفرق أساسي، وهو أنه في قطاع التعليم يمكن رؤية الأمر بوضوح أكثر. فالمدارس والجامعات زادت أقساط الطلاب وبدأت تعمل على إعادتها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة بالعملة الأجنبية. هذا الأمر يؤدّي إلى فصل واضح بين أولئك الذين لديهم حصّة من قنوات توزيع الدولار، وبين الشرائح الأقلّ قدرة. فالمدارس والجامعات التي كانت ضمن قدرات الطبقة المتوسطة مثلاً، باتت مقصداً حصرياً لطبقة محدّدة لديها مداخيل بالدولار. لذا فإن الشرائح التي انحدرت مداخيلها ولم تتمكن من تعويضها ولم يكن لديها وصول إلى قنوات توزيع الدولارات، باتت تبحث عن مدارس أرخص بمستويات تعليم متدهورة أكثر من السابق.