أظهرت موازنة مصرف لبنان أن احتياطاته بالعملة الأجنبية تراجعت في الأسبوعين الأولين من شهر تموز الجاري بقيمة 2.15 مليار دولار، وبقيمة 6.48 مليارات دولار مقارنة مع نهاية كانون الأول 2019، ما يعني أن قيمة الاحتياطات القابلة للاستعمال من الحسابات الخارجية الموزّعة على 22 مدينة حول العالم، باتت أدنى من 17 مليار دولار، بل هي ربما أدنى من 16 مليار دولار إذا أخذنا في الاعتبار أن مصرف لبنان أقرض المصارف نحو 10 مليارات دولار، وأن لديه نحو 5 مليارات دولار سندات يوروبوندز لا يزال يصنّفها احتياطات، رغم أن الدولة اللبنانية أعلنت تخلّفها عن سداد هذه السندات وهي تسعى للتفاوض مع الدائنين على الاقتطاع منها بنسبة 75%.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

إذاً، أين ذهبت الـ6.48 مليارات دولار؟ مصرف لبنان يتذرّع بأنه ينفق الكثير من الأموال على تمويل استيراد السلع الأساسية: البنزين والغاز والمازوت، والقمح والدواء والمستلزمات الطبية. أو على الأقل هذا ما نعرفه نحن عن السلع المموّلة باحتياطاته، وربما هو يموّل سلعاً أخرى من دون دراية أحد في رئاسة الحكومة أو في وزارة المال أو في مجلس النواب.
في الواقع، إن قيمة مستوردات البنزين والمازوت والغاز والفيول أويل والأدوية مع توابعها والقمح، لا تزيد في حدّها الأقصى على 2.2 مليار دولار في الأشهر الستة الأولى من عام 2020، ما يعني أن حجم الفجوة في استعمال احتياطات مصرف لبنان يبلغ 4.28 مليارات دولار. الترجيحات تشير إلى أن مصرف لبنان قد يكون استعمل هذه الأموال من أجل تمويل تحويلات خاصة بالعملات الخارجية للمصارف، سواء كانت هذه العمليات من أجل تسديد التزامات في الخارج (اعتمادات أو سواها من القروض المترتبة للمصارف المراسلة)، أو من أجل تمويل تحويلات إلى الخارج لا أحد يعلم لمصلحة مَن ولحساب مَن تتم وبأي شرعية، أو من أجل تهريب أموال مودعين. عملياً، لا يمكن الجزم بما يحصل طالما أن الأمر بكامله محاط بكمّ هائل من السرية الجائرة التي في وقت يبدو فيه لبنان على عتبة الجوع نتيجة التضخم المرتفع واحتمال فقدان بعض السلع الأساسية من الأسواق.
إلى جانب ذلك، كان لافتاً ومثيراً للشكوك ما يطأ من تحولات متسارعة في موازنة مصرف لبنان. فقد تبيّن أن ودائع المصارف لدى مصرف لبنان انخفضت خلال 15 يوماً بقيمة 2.12 مليار دولار، وأن بند «الأصول الأخرى» التي يخفي فيها سلامة القسم الأكبر من الخسائر الناجمة عن عملياته في السوق بالدولار (الهندسات المالية وأمور أخرى) والتي ينوي إطفاءها في السنوات المقبلة، ازداد أيضاً بقيمة 1.51 مليار دولار، علماً بأن المبالغ المسجّلة في هذا البند كانت تبلغ 24.7 مليارات دولار في نهاية كانون الأول 2019، وأصبحت اليوم تبلغ 38.6 مليارات دولار.
أما النقد في التداول فقد ازداد خلال أسبوعين فقط بقيمة 575 مليار ليرة، علماً بأن المبالغ المتداولة كانت تبلغ في نهاية كانون الأول 2019 نحو 7 مليارات دولار وتضخمت في 15 تموز إلى 13.35 مليار دولار، أي بزيادة 6.35 مليارات دولار.
عملياً، ينفذ مصرف لبنان استراتيجية واضحة وقائمة على انهيار سعر الليرة في السوق السوداء. يتيح له هذا الأمر الاستمرار في طباعة النقد وتمويل «لبننة» الدولارات التي اقترضها من المصارف. هذه المبالغ هي أصلاً ودائع الناس التي يحوّلها سلامة بشحطة قلم وبطريقة إجبارية إلى ليرات بسعر قرّر هو أن يكون 3850 ليرة مقابل الدولار، بعدما كان 3000 ليرة قبل بضعة أسابيع، بينما سعر الصرف الفعلي لنحو ثلثي الواردات السلعية إلى لبنان يُراوح بين 7 آلاف ليرة و10 آلاف ليرة. ويضخّ مصرف لبنان هذه الليرات عبر تعاميم تكرّس أسعاراً مبالغاً فيها لليرة مقابل الدولار. من أبرز هذه الأدوات التعميم الأساسي 148 الذي يتيح سحب الودائع التي لا تفوق 5 ملايين أو 3 آلاف دولار وفق سعر صرف يبلغ 3000 ليرة، ثم التعميم 563 الذي يتيح لكل الودائع التي تفوق ذلك سحبها على أساس سعر السوق أيضاً الذي تحدّد قبل فترة بـ3850 ليرة. وكل الدولارات التي يحصّلها سلامة بنتيجة هذه العمليات (تُقدر بنحو 500 مليون دولار شهرياً) بات بإمكانه إطفاء دولارات مماثلة أودعتها المصارف لديه. هذه هي بالتحديد آلية شطب الخسائر التي يطبّقها سلامة، الذي انتقده صندوق النقد الدولي بسببها، لأن ديناميتها الأساسية قائمة على انهيار سعر الليرة. تنطوي هذه الخطوة على تآكل هائل في المداخيل، وتآكل في الودائع (هيركات)، وستترك ندوباً في الاقتصاد الحقيقي تضاف إلى الندوب التي تلقّاها منذ 25 عاماً.