طبعاً، توجد طرق كثيرة للقيام بعملية «قص الشعر»، بما يؤمّن عدم الإضرار بمصالح أكثرية المودعين، من رواد أعمال وأصحاب مشاريع ومتقاعدين وعمّال وموظفين. ولكن الشرط الرئيس لنجاح هذه العملية يبقى في منع أصحاب المصارف وكبار المودعين من الهروب بأموالهم وتحييدها عن أي إجراء، وهو ما لا تفكّر به السلطات القائمة، بل بالعكس تقوم بكلّ ما يلزم لتأمين الهروب الآمن لهم.
> أكثرية الناس لا تعلم أن مثل هذا الإجراء هو جزء من تقاليد الأسواق المالية الرأسمالية، ولجأت إليه دول عدّة لمواجهة أزماتها الشبيهة بأزمة لبنان اليوم. يعتقد البعض أن ذلك قد يؤدي إلى خسارة جزء من الادّخارات بسبب انعدام الثقة بالسلطة الحاكمة. وأحياناً يواجه الناس سوء فهم لمثل هذه الإجراءات، بسبب الأيديولوجيا المهيمنة التي جعلتهم يعتقدون أن تكدّس الودائع في المصارف هو تعبير عن نجاح باهر وعمل مشروع وحقوق لا يجوز المسّ بها. ولكن في الواقع، الأمر ليس بهذا التبسيط، وتكفي الإشارة إلى أن الودائع وأموال المصارف هي رساميل وهمية خاملة، تمّت مراكمتها في الحالة اللبنانية عبر الفوائد السخية (الفاسدة) المدفوعة من المال العام (الضرائب) وميزانيات الأسر المعيشية (القروض السكنية والشخصية وقروض الأعمال والتجارة).
بالأرقام، يوجد لدى المصارف في لبنان نحو 2.9 مليون حساب، ومن المهم أن نعلم أن 1.7 مليون حساب يحتوي على ودائع لا تزيد عن 3 آلاف دولار، كما أن 32% من الحسابات تتراوح قيمة الودائع فيها بين 3 آلاف و100 ألف دولار، أي أن نحو 92% من الحسابات تحتوي على أقل من 18% من مجمل الودائع يمكن أن لا تطالها أي عملية «قص شعر»، في حين أن أقل من 8% من الحسابات تحتوي على ودائع بين 100 ألف دولار ومليون دولار ويمكن أن يصيبها قصّ جزئي طفيف، ويبقى نحو 0.8% من الحسابات (أي أقل من 25 ألف حساب) تحتوي على ودائع تفوق مليون دولار، وتبلغ حصتها من مجمل الودائع نحو 49% (أي أكثر من 82 مليار دولار) يمكن أن يتم استهدافها تصاعدياً لاسترداد جزء من الفوائد غير المشروعة التي راكمتها في الفترة السابقة.
المشكلة أن السياسة المُتّبعة من الحكومة والبنك المركزي تسمح لكبار المودعين بالهروب، في الوقت الذي يتمّ تقييد حركة الودائع الصغيرة والمتوسطة، فحتى حزيران/ يونيو الماضي، سجّلت الودائع التي تفوق قيمتها 3 ملايين دولار انخفاضاً بقيمة 5.6 مليار دولار وتم تسكير نحو 438 حساباً في هذه الشريحة، وفق الإحصاءات التي حصلت عليها «الأخبار» من مصرف لبنان، والتي تغطّي الفترة من نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2017 حتى نهاية حزيران/ يونيو 2019.
هذه الإحصاءات لا تغطّي الأشهر الأربعة الأخيرة، التي اشتدّت فيها الأزمة النقدية والضغوط على سعر صرف الليرة، ووفق المعلومات التي يُدلي بها مصرفيون فإن وتيرة هروب الودائع الكبيرة تسارعت كثيراً في هذه الفترة، وكانت سبباً من أسباب نقص الدولار وارتفاع عجز ميزان المدفوعات إلى -4.4 مليار دولار حتى آب/ أغسطس الماضي، على الرغم من إعلان مصرف لبنان استدانته نحو 1.4 مليار دولار من الخارج عبر عملية أجراها مع «غولدمان ساكس»، وعلى الرغم أيضاً من إطلاقه المزيد من «الهندسات المالية» لجذب ودائع جديدة من غير المقيمين بأسعار فائدة باهظة جداً.
في 20 شهراً، لم تسجّل ودائع الزبائن لدى المصارف في لبنان أي زيادة فعلية، إذ ارتفعت بنسبة طفيفة جداً (0.5%)، أي أقل من 900 مليون دولار، في حين أن الفوائد، التي سدّدتها المصارف إلى زبائنها في 2008، بلغت وحدها أكثر من 10 مليارات دولار. ما يعني أن الودائع القائمة لم ترتفع أبداً، بل انخفضت كثيراً إذا تم استثناء مساهمة مدفوعات الفائدة في مراكمة هذه الودائع، ولا سيما الودائع الكبيرة منها. ما يعني أننا في ظلّ موجة هروب واسعة للودائع من القطاع المصرفي المحلي.
يتم التركيز غالباً على عمليات سحب الودائع للاحتفاظ بها في المنازل، خوفاً من وقوع أزمات مصرفية. ويجري التداول بأرقام ضخمة بالمليارات للقول إن النزيف مصدره تصرفات أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة وهلعهم. إلا أن الإحصاءات المتاحة لا تدعم ذلك، من دون أن تنفيه أو تقلل من أهميته، ولكنها تكشف أن المصدر الرئيس لنزيف الودائع من المصارف هو هروب ودائع كبيرة إلى خارج لبنان لا إلى المنازل.
انخفاض ودائع كبار المودعين: إنهم يهربون بأموالهم
إقفال المصارف منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر ضروري للحدّ من عمليات التحويل وسحب الودائع، إلا أن الحكومة والبنك المركزي لم يفرضا حتى الآن أيّ ضوابط نظامية لمنع تفاقم موجة هروب الرساميل، بذريعة أنّ ذلك قد يؤثر سلباً على تدفق الرساميل. يطرح ذلك علامات استفهام كثيرة، لا سيما أن القيود غير المعلنة والاستنسابية لا تصيب إلا أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة، في حين أن المودعين الكبار وأصحاب المصارف ليسوا مقيّدين أبداً، ويهرّبون أموالهم، حتى عندما تكون أبواب المصارف موصدة، أو أقلّه هذا ما تكشفه الإحصاءات
واحد من أبرز الإجراءات التي قد تُجبر عليها الحكومة اللبنانية في مواجهة الأزمة القائمة والاستجابة لمطالب الناس المنتفضين ضد الطبقة «الأوليغارشية» المالية، هو ما يسمّى «قص الودائع»، أو فرض ضريبة استثنائية لمرّة واحدة على الودائع التي تفوق حدّاً معيّناً، وعلى أموال المساهمين والرساميل المصرفية، وذلك بنسب تصاعدية، على غرار ما حصل في قبرص في عام 2013. إلا أن جدوى هذا الإجراء وعدالته ستتراجع كلما استطاع كبار المودعين تهريب ودائعهم والنفاد بثرواتهم ورمي الأكلاف والخسائر على الفئات متوسّطة الدخل وأصحاب الادّخارات الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن أن هروب الودائع يساهم بزيادة الضغوط على سعر صرف الليرة ويقوّض إمكانيات التمويل للقطاعين العام والخاص ويسرّع الانهيار الذي يُقلق الجميع.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره