رام الله | بعد يومين فقط من تنظيم «مسيرة الأعلام»، وبضع ساعات من انتهاء القمّة العربية التي أعادت التمسّك بـ«القدس الشرقية عاصمة لفلسطين»، سمحت حكومة الاحتلال لوجهها الفاشي الأبرز باقتحام المسجد الأقصى، فيما عقدت هي اجتماعها الأسبوعي في نفق أسفل المسجد، مقرّةً جملة مخطّطات وميزانيات لتوسيع الاستيطان في القدس، وتثبيت «السيادة الإسرائيلية» على المدينة المقدسة. وإذ تُجاهر إسرائيل، من خلال ذلك، بنيّتها حسم الصراع على القدس بقوّة الأمر الواقع، فإن خطواتها الأخيرة تفرض استنفاراً على جميع جبهات المقاومة، بهدف منع ما يبدو أنها أكبر وأخطر هجمة على المدينة المحتلّة
يبدو أن «مسيرة الأعلام» التي نظّمتها الجمعيات الاستيطانية في القدس المحتلّة الخميس الماضي، فتحت شهيّة حكومة العدو، ومن خلفها المستوطنين والمنظّمات اليمينية و«جمعيات الهيكل»، للانقضاض على مدينة القدس سياسياً واستيطانياً. فبعد أيام من المسيرة التي سُمح فيها للمستوطنين بإظهار فاشيتهم ضدّ المقدسيين، عقدت حكومة الاحتلال اجتماعها الأسبوعي في نفق تحت المسجد الأقصى، بينما اقتحم وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، المسجد الأقصى على رأس مجموعات من المستوطنين، في خطوة هي الثانية من نوعها منذ تولّيه منصبه. ونالت خطوة بن غفير، الذي وصل في ساعات الصباح الباكر إلى ساحة البراق، موافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية منذ الخميس الماضي، ورافقها استنفار أمني لشرطة الاحتلال والوحدات الخاصة داخل الأقصى وخارجه. وعقب الاقتحام، قال بن غفير إن «كلّ تهديدات حماس لن تجدي، نحن أصحاب السلطة على القدس، وعلى كلّ أرض إسرائيل».
هكذا، بدا جلياً أن حكومة نتنياهو اليمينية تتّجه إلى حسم مسألة القدس، وهو ما دلّ عليه أيضاً عقدها اجتماعها الأسبوعي في نفق أسفل حائط البراق، للمرّة الثانية بعد أوّل اجتماع لها هناك عام 2017، وذلك للمصادقة على عدّة مخطّطات استيطانية تهويدية في المدينة. وكانت ما تسمّى «اللجنة المحلّية الإسرائيلية للتنظيم والبناء» في القدس المحتلّة، صادقت على إيداع مخطَّطين لإقامة 1700 وحدة استيطانية جديدة شرق مستوطنة «راموت»، المقامة على أراضي الفلسطينيين شمال غربي القدس المحتلّة. ويتضمّن المخطّطان إقامة مبانٍ بارتفاع 12 طابقاً، ومناطق تجارية، ومؤسّسات عامّة ومتنزّهات للمستوطنين. وبحسب ما رشح من معلومات ونشرته الصحافة العبرية، فمن المتوقّع أن تصادق حكومة الاحتلال، أيضاً، على تعيين «لجنة وزارية لشؤون القدس الكبرى» برئاسة الوزير مائير باروش، تعنى بالقضايا المتعلّقة بالقدس، بما فيها «تطويرها ورفاهية سكّانها»، وكذلك الأمور المتّصلة بالسلطات المحلّية والمستوطنات الواقعة ضمن مسطّح «القدس الكبرى».
يسابق الاحتلال الزمن لتوسيع المستوطنات القائمة، وإقامة أخرى جديدة في المدينة المقدّسة


أيضاً، سترصد سلطات العدو 60 مليون شيكل للعامَين 2023 و2024، للأنشطة التعليمية والثقافية والسياحية، بهدف «تعزيز العمل الاجتماعي باسم التقليد اليهودي والتراث الإسرائيلي، وتعزيز صلة الشعب اليهودي في إسرائيل والعالم». كما ستقرّ خطّة خمسية للأعوام 2024 - 2028 بهدف تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في القدس الشرقية، تصل قيمة الميزانيات المرصودة لها إلى أكثر من 3 مليارات شيكل. وتضاف إلى ما تَقدّم، ميزانية بقيمة نصف مليار شيكل من أجل مشروع ما يسمّى «الحوض المقدس» الذي يُعتبر أكبر عملية عبث وتزوير للتاريخ الإسلامي - العربي - الفلسطيني في المدينة. كذلك، تشمل المصادقات زيادة الميزانيات لمشاريع تحديث البنية التحتية، وتشجيع الزيارات إلى ساحة البراق، من خلال برنامج «الشباب المهاجر إلى القدس»، وخطّة للكشف عن القدس القديمة، وأخرى لوزارة الاقتصاد لتشجيع العمل في المدينة، فيما ستُحوَّل مسطّحات واسعة ممّا تسمّى «أراضي الدولة» إلى بلدية القدس.
وممّا تتضمّنه خطّة حكومة الاحتلال، أيضاً، ميزانية بقيمة 95 مليون شيكل، لجذب المهاجرين الجدد من الشبّان اليهود وإقناعهم بالاستقرار والسكن في القدس، عبر منحهم هِبات وامتيازات خاصة، وذلك على ضوء ارتفاع نسبة خروج الشباب من المدينة. إذ ذكرت «دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية» أن أكثر من 18 ألف مهاجر جديد وصلوا إلى إسرائيل، واستقرّوا في القدس منذ عام 2018، علماً أن حوالي نصفهم تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة، إلّا أن قرابة 30% منهم غادروا المدينة في السنوات الخمس الماضية. كما صادقت سلطات العدو على تخصيص مبلغ 17 مليون شيكل لدعم عمليات الحفر تحت الأقصى، بالإضافة إلى أعمال صيانة الأنفاق القائمة.
على هذا النحو، تمضي إسرائيل قُدُماً في مشروعها لحسم وضع القدس بشكل نهائي، من دون اكتراث للمواقف العربية والدولية، بما فيها تلك الداعية إلى جعل المدينة عاصمة لدولتين. وإذ يَجري الاشتغال على ذلك الحسم من خلال قرارات الحكومة وخططها، فإنه يتمّ أيضاً من خلال الموقف السياسي. إذ قال نتنياهو ردّاً على خطاب رئيس السلطة، محمود عباس، في الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، «إننا نعقد اجتماع الحكومة في سفح جبل الهيكل. الشعب اليهودي كان هنا قبل 3000 سنة. والعلاقة العميقة بينه وبين القدس لا مثيل لها. القدس كانت عاصمتنا قبل لندن وباريس وواشنطن». وتابع أن «الكفاح من أجل وحدة القدس لم ينتهِ، واضطررنا لصدّ ضغوط تطالب بتقسيم القدس. ونحن تصرّفنا بشكل مختلف، ليس فقط أننا لم نقسّم، وإنّما بنيناها ووسعناها. وأفتخر بأن الحكومات تقود توسيعاً في جميع أنحاء غربها وشرقها من أجل جميع سكّانها» على حدّ زعمه.
ويسابق الاحتلال الزمن لتوسيع المستوطنات القائمة، وإقامة أخرى جديدة في المدينة المقدّسة، في الوقت الذي لا يتوقّف فيه عن تجهيز البنية التحتية من شوارع وسكك حديدية لربط المستوطنات الجديدة والقديمة، بهدف زيادة عدد المستوطنين بشكل كبير مقابل الفلسطينيين، والاستيلاء على ممتلكات الأخيرين وأرضهم ومنازلهم، وبالتالي تحقيق التفوّق الديموغرافي اليهودي ومحو الهوية الفلسطينية للمدينة. وحمل اجتماع حكومة الاحتلال أسفل المسجد الأقصى، رسالة واضحة إلى الفلسطينيين والعرب في هذا المجال، وذلك بعد ساعات من انتهاء القمة العربية التي أعادت التأكيد أن «القدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين»، ورفضت «أيّ محاولة للانتقاص من الحق في السيادة الفلسطينية عليها». رفضٌ سارعت إسرائيل إلى الردّ عليه عملياً من خلال الاجتماع والمشاريع والميزانيات، وبالتالي الإعلان أنها ستسعى للحسم بقوّة الأمر الواقع، وأنها غير معنيّة بأيّ مفاوضات يمكن أن تَجري مستقبلاً.