لم تخيّب الروائية والأديبة الفرنسية آني إرنو (1940) آمال الكثير من النقّاد والمواقع الأدبية التي تكهّنت بفوزها بجائزة «نوبل» للآداب لهذا العام ووضعتها في طليعة المرشّحين مع الروائي الفرنسي الآخر ميشال ويلبيك (1966)، ليأتي إعلان الأكاديمية السويدية أمس بمثابة تتويج لمسيرة أدبية فذة وطويلة للأديبة الفرنسية التي رفعت حصّة فرنسا من الجائزة إلى 16 وإلى 17 حصة النساء ككل، منذ تأسيس الجائزة عام 1901.إرنو المولودة في بلدة صغيرة في النورماندي لأسرة تنتمي إلى الطبقة العمالية اليسارية اعتبرت الكتابة منذ البداية أداة سياسية: «عندما كنت أتخيل الكتابة في العشرين من عمري، كنت أتحدث عن الكتابة الكفيلة بإنقاذ «العِرق» الذي أنتمي إليه: لقد كانت بالفعل شيئاً سياسياً، ولكن أسيء فهمه، وساذجاً جداً: اعتقدت أنه بمجرد أن تكتب ابنة العمّال رواية، مهما كانت، فسيعتبَر الأمر فعلاً سياسياً. لم أكن أرى على الإطلاق أن ذلك يعزز التسلسل الهرمي الثقافي بطريقة معينة. بعد عشر سنوات، من خلال كتابة «الخزائن الفارغة»، اتخذت كتابتي وجهة معاكسة لتكشف عن كيفية مشاركة المؤسسة التعليمية في آليات الهيمنة».


ما بين «الخزائن الفارغة» (دار غاليمار ـــ 1974) و«مذكرات فتاة» (2016)، ومروراً بأعمال أخرى مثل «انظر إلى الأضواء يا حبيبي» (2014) و«الحدث» (1983 و 2000) وغيرها، عملت الكاتبة الملتزمة بقضايا أقصى اليسار الفرنسي على خلخلة ثوابت المنظومة الأدبية والروائية من خلال الحفر في قلب النظام الاجتماعي الفرنسي بشكل خاص والأوروبي أو الغربي بشكل عام، عبر الكتابة عن أشياء «تعتبر غير جديرة بالأدب»، مثل الإجهاض، ومحطات المترو، وملاحظاتها في السوبرماركت. في «انظر إلى الأضواء يا حبيبي» مثلاً، احتفظت آني إرنو بملاحظات دوّنتها لمدة عام أثناء زيارتها مركز «أوشان» للتسوق في الضاحية الباريسية: «أن نرى لكي نكتب يعني أن نرى بشكل مختلف». انطلاقاً من هذه الرؤية تعيد إرنو اكتشاف عالم المتاجر الكبرى بعيداً من كونه مساحة رأسمالية خالصة، وإنما فرصة للقاءات إنسانية جميلة وجغرافيا للإلفة جديرة بموضوع أدبي عظيم. كما أنّ أرنو تناولت في أبوابها ثيمات تعتبر أكثر «نبلاً» في العرف الكتابي الأدبي مثل الوقت والذاكرة والنسيان.
أبرز ما ميّز كتابة إرنو أسلوبها الرافض للرؤية المزخرفة والمترعة بالتخييل للجملة الروائية، أسلوب يفضّل شكلاً من الدقة والجفاف في ما يشبه «الكتابة المسطحة» التي تعبر عن عدم ثقتها بأي استيتيقا لغوية تحاول أن تفرض سلطة ما على الكتابة وأي شكل آخر من أشكال الهيمنة: إنها كتابة تتحلل من التخييل (fiction) وتستند كثيراً إلى السيرة الذاتية أو الأوتوبيوغرافيا لتجترح منها حبكة وسردية محكمة تنطلق من الذات لتخلق منطقة تجارب ومشاعر وتطلعات وخيبات مشتركة مع الآخرين كما تقول الناقدة رافاييل ليريس في جريدة «لوموند»: «أعمال مثيرة للإعجاب من حيث تناسقها، ومن حيث أن الكتابة ضرورة ملحة لا يمكن أن تترك الكاتبة وشأنها، ساعية جملة تلو جملة، وكتاباً بعد كتاب، لمحاولة توضيح الواقع، للوصول إلى فهم طبيعة الوجود والتعبير عنه، وهو ما يتعذر الوصول إليه بأي طريقة أخرى غير الأدب، واجتراح منطقة بين الأدب والسوسيولوجيا والتاريخ». عبّرت إرنو المولودة في قلب الحرب العالمية الثانية، وفي خضم التصنيع السريع والتحولات السكانية في رواياتها عن الكثير من إرهاصات أحداث القرن العشرين التي ولّدت مخاوف ثقافية إلى حد لم يسبق له مثيل، لا سيما في أوروبا. بذلك، انضمت إلى مجموعة من الكاتبات مثل ناتالي ساروت ومارغريت دوراس وآن هيبرت في التعبير عن هذه المخاوف (سواء كانت تُنسب إلى الشخصيات أو الرواة أو المؤلفات ضمناً) المتعددة في طبيعتها، ومجابهة الشكوك اللغوية الراديكالية للعديد من الكتاب والمنظرين الذكور في فترة ما بعد الحرب الثانية حول قوة اللغة في التعبير عن الظواهر غير اللغوية مثل الدمار والخسائر في الأرواح التي عانى منها جزء كبير من أوروبا خلال تلك الفترة، ومقاومة العقبات المعوقة للفاعلية الأدبية للمرأة في القرن العشرين من منظور الأديبات الرائدات اللواتي فهمن المسؤولية الكبيرة لعملهن: من خلال الإيمان بقوة وفاعلية اللغة ومواكبة التاريخ وتمظهراته السوسيولوجية، يمكننا أن نفهم الكتابة المسطحة لإرنو وارتباطها عضوياً بالعلوم الاجتماعية وابتعادها عن التخييل والفانتازيا. إذ كما يقول الناقد دومينيك فيارت في كتابه «آني إرنو: الزمن والذاكرة» (منشورات ستوك، 2014): «في صميم اهتماماتها في العقود الأخيرة، نراها مهتمة بكل القضايا الاجتماعية الرئيسية، من الاختلاف الطبقي، مروراً بالتمييز الاجتماعي والثقافي، والمطالبات النسائية... والفئات والتيارات التي أبرزها الفن أو الفكر وجعلها تتصدر المشهد أخيراً، وحفرها في أسئلة الذاكرة والحياة اليومية، والميراث والبنوة.
كبرت في أسرة تنتمي إلى الطبقة العمالية اليسارية، واعتبرت أنّ الكتابة أداة سياسية

كما شاركت بعمق في مناقشة الظواهر الأدبية التي لا تقل أهمية مثل عودة الموضوع إلى الأدب والأدب الذاتي التخييلي، ونراها تشارك في النقاشات التي تشبك الأدب اليوم مع العلوم الإنسانية». الروائية التي ولدت في كنف عائلة متوسطة الحال وترعرعت في محل بقالة يملكه والدها سمح لها بأن تختبر وتتجاوز، في وقت باكر جداً ،«جميع أنواع المحادثات ولغات الطبقات»، ليتعزز بذلك فهمها للتسلسلات الهرمية الاجتماعية والهيمنة في أدق أشكالها. كما أن مهنتها كأستاذة جامعية في اللغة الفرنسية وزواجها من شخص ينتمي إلى العالم البرجوازي، جعلها أشبه بـ «منشقة عن الطبقة». وفي هذه الفجوة، شكّل هذا التوتر المختلط بإحساس بالذنب والعار والندم، عصباً حيوياً للكتابة. حيوية أكثر ما نراها في العمل الأهم لإرنو «السنوات» (2008) وترجمته الصادرة باللغة الإنكليزية (2018) التي كانت ربما المقدمة إلى نوبل، إذ تنقلت فيها بين الذاكرة الفردية والجماعية وتناوب السرد بين المناطق الحميمة والأحداث الكبرى وختمتها بعبارة تختصر كل الهدف من الكتابة «محاولة إنقاذ شيء ما من الزمن الذي لن نكون فيه حين تختفي السنوات». رؤية جعلت من أعمال إرنو مرآة شفافة وشاملة لزمن كامل أبهرت بضوئها الأكاديمية السويدية وأعطت خيارها لهذا العام، كثيراً من الصوابية وإعادة الاعتبار للأدب الذي يحفر في صميم الإنسان والمجتمع والذاكرة.

• صدرت ترجمات آني إرنو بالعربية عن «منشورات الجمل»: «مذكرات فتاة» (2021، ترجمة مبارك مرابط)، «الحدث» و«امرأة» (2019، ترجمة سحر ستالة)، و«شغف بسيط» (2019) و «انظر إلى الأضواء يا حبيبي» (2017 ترجمة لينا بدر) و«الاحتلال» (2011 ترجمة إسكندر حبش). كما صدرت رواية «البنت الأخرى» عن «دار أزمنة» (2016، ترجمة نورا أمين).



تباينات الجنس واللغة والطبقة
فازت الكاتبة الفرنسية آني إرنو بجائزة «نوبل» أمس عن «الشجاعة وحدّة الرؤية» في كتبها التي تعكس سيرتها الذاتية إلى حد بعيد وتتناول الذاكرة الشخصية وعدم المساواة الاجتماعية. وقالت الأكاديمية السويدية في شرحها لاختيارها، إن إرنو (82 سنة) «تفحص باستمرار، ومن زوايا مختلفة، حياة تتميز بتباينات قوية في ما يتعلق بالجنس واللغة والطبقة». وقالت إرنو لمحطة «أس في تي» السويدية: «فاجأني الأمر جداً. لم أفكر قط في أن تكون في نطاقي ككاتبة. إنها مسؤولية كبيرة. أن أدلي بشهادتي، ليس بالضرورة من حيث كتابتي، لكن أن أدلي بشهادتي بدقة وعدل في ما يتعلق بالعالم».
وكانت إرنو قد قالت قبلاً إن الكتابة عمل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية. وقالت الأكاديمية السويدية إنها من أجل «هذا الغرض تستخدم اللغة كـ «سكين»، كما تسميها لتمزيق حجب الخيال». وظهرت روايتها الأولى عام 1974 بعنوان «الخزان الفارغة»، لكنها اكتسبت شهرة عالمية بعد نشر «السنوات» في عام 2008. وقالت الأكاديمية عن هذا الكتاب «إنه أكثر مشاريعها طموحاً الذي منحها شهرة عالمية ومجموعة كبيرة من المتابعين وتلاميذ الأدب». وقال عضو الأكاديمية السويدية أندرس أولسون لرويترز «إنها قطعت طريقاً طويلاً في حياتها، إنها امرأة شجاعة».
وفاز فيلم مقتبس عن روايتها «الحدث» حول تجربتها في إجراء الإجهاض حين كان لا يزال غير قانوني في فرنسا في الستينيات، بجائزة الأسد الذهبي في «مهرجان البندقية السينمائي» عام 2021.