المشهد الميداني في مواجهة «داعش» يقود الى خلاصة مبسّطة: هناك تحالف عالمي قائم في وجه هذا التنظيم، وكأن العالم المتخاصم والمتحارب قرر وضع خلافاته جانباً لخوض معركة واحدة ضد عدو واحد. واضح أن محور المقاومة، من إيران الى سوريا وحزب الله، مروراً بالعراق الجديد، صاحب مصلحة في مواجهة «داعش» وأخواتها. الروس يلاحقون الفروع الجديدة من تنظيم «القاعدة» الدولي، حيث يجري التجنيد والتدريب والتفعيل في جبهة سوريا.
والإنذارات متتالية حول عشرات المقاتلين من أصول روسية يعملون الآن في سوريا، وبعضهم بدأ العودة ـــ تهريباً ـــ الى البلاد البيضاء. الأتراك يعبّرون عن خشية متعاظمة من «داعش» باعتبارها نقيضاً لتيار الإخوان المسلمين أو الإسلام المعتدل الذي يدّعي الأتراك تمثيله. دول الخليج العربي في معركة مفتوحة مع هذا النوع من التنظيمات. السعودية نفسها لا تريد «داعش» في بيتها. هي تريدها في بيوت الآخرين. والأردن بات يخشى قيام فروع ناشطة بقوة لهذا التنظيم داخل الأردن، ويبدو أن علامات الظهور كثرت في الآونة الأخيرة. والأمر كذلك في مصر وبلاد المغرب العربي، وصولاً الى كل أوروبا الغربية وأميركا.
يبدو تنظيم «داعش»، اليوم، مثل تنظيم «القاعدة» قبل عشر سنوات، العدو المشترك لكل هؤلاء. وبالتالي فإنه في مواجهة مع كل هؤلاء وفي كل الساحات. وهذا أمر حقيقي. لكن السؤال: هل صحيح أن كل هذه القوى الإقليمية والدولية متحالفة في هذه المعركة، وهل يجري تنسيق حقيقي في ما بينها لمواجهة هذا التنظيم وفروعه؟
سيرفض أتباع آل سعود، مسبقاً، كل كلام عن حضور قيادة المملكة الوهابية وعائلاتها النافذة في قلب هذا التنظيم. لكن الحقيقة، الأكيدة، أن آل سعود ظلّوا، على الدوام، المصدر الرئيسي لإغناء هذا التنظيم، فكرياً وفقهياً ومالياً وبشرياً، وأن العقل المجنون الذي يتحكم بمن يقود القرار في الرياض أعاد الاعتبار الى نظرية «التحالف مع الشيطان في وجه العدو الأول اليوم، وهو إيران وحلفاؤها». هذا العقل المجنون مهتم، فعلاً، بأن يسيطر على كل ما يمتّ بصلة لهذا التنظيم، لا للتخلص منه، بل لاستخدامه في معارك آل سعود مع البشرية جمعاء. وكل دعم وصل سرّاً أو علناً أو مواربة لهذا التنظيم خلال الأعوام العشرة الماضية، كان يتم تحت نظر آل سعود، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو باكستان. وكل إجراء ظهر الى العلن ضد التنظيم في السعودية، إنما كان لردع أعضاء في هذا التنظيم عن القيام بأي عمل ضد العائلة الحاكمة في الجزيرة العربية. وأساساً، جرى تحييد هذه العائلة وحكومتها عن لائحة الأعداء لهذا التنظيم.
الأميركيون أنفسهم وجدوا أن الأمر لم يعد يحتمل الإهمال، وخصوصاً بعد فشل استثمار هذا التنظيم في إسقاط بشار الأسد وإضعاف حزب الله وإرباك إيران. يدرك الأميركيون، من تجربة العراق، أن كل الإرهاب ضد حكومة المالكي لم يدفعها خطوة إضافية نحو تحالفات أوسع مع الحكومة الأميركية. ومع ذلك، فإن واشنطن، كما فرنسا المصابة بالهذيان مع العنصري فرانسوا هولاند، تشعران بالحاجة لأن يكون كل إضعاف لـ«داعش»، ضمن سياق لا تذهب إيجابياته الى الطرف الآخر.
لم يكن في اليد حيلة سوى إعادة إنتاج العصابة نفسها، ولكن باسم جديد، وبشعارات أكثر ضبابية، وبرياء إضافي. وهو ما يجري العمل عليه اليوم في سوريا من خلال مجموعات «الجبهة الإسلامية»، التي يتصارع الأميركيون والفرنسيون والسعوديون والأتراك والقطريون على ممارسة النفوذ داخلها. وهم يأملون أن تكون «الجبهة» حاضنة عقائدية لقواعد مؤيدة لـ«داعش»، وأن تكون أشد فتكاً مع النظام في سوريا وضد حزب الله في لبنان، ولكن أكثر طواعية بيدهم السياسية والأمنية. وبالطبع، يوجد بين قيادات المجموعات المسلحة السورية من يقبل لنفسه هذه المهمة.
عملياً، يجب فهم ما يجري الآن ضد «داعش»، في سوريا، في سياق إزالة أي خطر تشكّله هذه المجموعة على مصالح وبرامج وأهداف التحالف العربي ـــ الإقليمي ـــ الدولي الذي يخوض أكبر معركة لتدمير سوريا. وفي حال تراخت «داعش» اليوم، وقبلت ببرنامج العمل الجديد، لما استمرت الحرب ضدها، وهناك اقتراح بقيادة جماعية تكون «داعش» جزءاً منها لمواصلة الحرب ضد النظام السوري، ولكن بآليات مختلفة. وهذا هو جوهر الحملة القائمة حالياً، لأن هذا التحالف يعرف أن فكرة استئصال «داعش» غير واقعية، وكل ضربة لها في وقائع هذه الأيام سيربكها، ولكنه لن يسقطها كقوة استقطاب في أوساط من يجري تعبئتهم ليل نهار مذهبياً وطائفياً وسياسياً.
الحكاية، من أولها الى آخرها، أن الفريق المناهض لمحور المقاومة يسعى الى انتزاع ورقة ميدانية تتيح له التحدث بقوة أكبر حيال مفاوضات جنيف. يشعر من بيده الأمر في الغرب، وفي السعودية على وجه الخصوص، بأنهم فشلوا في انتزاع مكاسب ميدانية في وجه الجيش السوري وحزب الله. وهم لا يقدرون على ادعاء أن بقية المناطق السورية تحت سيطرتهم الكاملة. وجدوا في الحملة على «داعش» فرصة لإعادة تنظيم المناطق الخاضعة لسلطة المجموعات المسلحة تحت إمرتهم، وبالتالي إخضاع كل تشكيلات المعارضة لبرنامجهم، سواء الميداني أو السياسي... ولا بأس هنا من «داعش» جديدة!