عودة إلى النقطة الأولىلم يعد الحراك في حاجة الى شرعية شعبية. هو في حاجة الى زيادة عنصر الثقة به من قبل الجمهور. وهو في حاجة الى عملية توسع تجعله عاماً، وليس واقفاً عند نقطة لا نعرف ما الذي ينتظره وينتظرنا بعدها. صحيح أن التكتيك يجعله حاضراً بقوة لدى الرأي، وخصوصاً بمساعدة وسائل الإعلام، لكن الأمر يكاد يجنح نحو أمور تتطلب النقاش.

ما حصل أمس في وزارة البيئة حق مشروع ومفهوم لمن يقود حراكاً هدفه إزعاج السلطة وإبقاؤها تحت الضغط. واختيار الأساليب أمر مهم في هذه الحالة. لكن ما ظهر من خلال مداولات الساعات الـ 36 الماضية أن محاولة إنتاج إطار قيادي لمجموعات الحراك تواجَه بمعارضة من داخل المجموعات نفسها.
بحسن نية، يمكن القول إن المجموعات المتحمسة لا تريد أن تخضع لمعايير «عاقلة». وهنا يقصد المعايير التي تريد أن تدرس كل خطوة بطريقة تفقدها عفويتها. وبالتالي، قرر بعض المشاركين السير نحو خطوات خارج الإطار القيادي التشاوري.
بسوء نية، يمكن الاستنتاج أن بعض الناشطين البارزين في هذه المجموعات يسعون الى احتكار القرار الميداني. وهؤلاء لا يرون سبيلاً الى ذلك سوى الإمساك بالأرض، من زاوية اختيار التحرك وطبيعته ومكانه وتوقيته.

الخوف من إطار قيادي جماعي لا
يعكس مراهقة، بل قلة ثقة بالنفس
أو أجندة خفيّة

وهو ما دفع المجموعات التي حاصرت وزير البيئة، أمس، الى التحفظ خلال اجتماع الاثنين على إطار ملزم. وهي أعلنت موافقتها على لجنة متابعة، لكن من دون أن تخسر حقها بالتصرف من دون العودة الى هذه اللجنة.
سوء النية هنا، ليس فيه إنكار حق من يريد أن يحتفظ بالقيادة، لكن فيه إشارة الى أن المسألة يفترض بها، بعد تحرك السبت، أن تكون قد تحولت من نشاط مقطعي يقوده بضع مئات من الشبان، الى تحرك عام بات المواطن فيه عنصراً فاعلاً، حتى من دون ورقة انتساب. وبالتالي، فإن البحث عن إطار قيادي ليس هدفه احتواء الحراك أو الناشطين، بل احتواء السياق العام للحراك، وجعله يسير في طريق أكثر وضوحاً، وأقل عرضة للتدخلات من جهات عدة تتقاتل اليوم على الإمساك به. وكما يتبادل فريقا 8 و14 آذار، الاتهامات حول الوقوف خلف التحرك، يحاول الفريقان، كل على طريقته، دفع الحراك نحو مصلحته في النهاية. وهذا يشرح لنا، أيضاً، أن قوى خارجية معنية بملف لبنان تتصرف بأنها معنية أيضاً بالدخول الى قلب الحراك لأخذه حيث تريد.
الإطار القيادي والموقف السياسي الواضح ممران إلزاميان لجعل التحرك خالياً من الشوائب الكبرى. وهو ليس مطلباً للمترفين، بل حاجة إلى الحراك نفسه. وفي حالات كهذه، لا يمكن ترك الأمر لانفعالات تنتج أحياناً من ألاعيب غِيرة وحسد وتنافس قيادي، إضافة الى الأهواء التي يتأثر بها الناشطون. وهذا أمر موجود بقوة داخل مجموعات الحراك.
ما حصل أمس يعكس اقتناع بعض الناشطين، وبعض المجموعات، بأنهم لا يزالون في طور التعريف عن أنفسهم. وهم لا يقبلون أنه، في بعض الحالات، يكبر الإنسان في شهر بأكثر مما يكبر في عشر سنوات. وما حصل أمس، يعيد الحراك الى التجربة الأولى، إلى لحظة القيام بضربة كبيرة تهدف الى لفت الأنظار، وإلى جذب الكاميرات نحوهم. وما حصل أمس، يعكس أيضاً عدم تصديق هؤلاء الشبان بأن الشارع منحهم تفويضاً مقبولاً، وكأن تظاهرة السبت لم تحصل. والأخطر في الاستنتاج، يشير تحرك أمس الى أن لدى الناشطين جدول أعمال مختلفاً!
في كل الحالات، يحق لكل من ينخرط في حراك ضد السلطة أن يبتدع ما يراه مناسباً كوسيلة للتعبير عن رأيه. وفي هذه الحالة، لا يهم التوقف عند تمييز ساذج بين سلمية نخبوية وبين عنف شارعي طبيعي. لكن، على من يقود هذا النوع من التحركات أن ينتبه الى أن إصراره على جدول أعمال مستقل يعني أنه كمن يدعو الآخرين الذين انخرطوا في تظاهرة السبت الى العودة الى منازلهم.
ولكي لا يحصل ذلك، ليس من علاج أو مدخل سوى التسييس الكلي، التسييس الذي يلزم الناشطين، قبل الجمهور، باتخاذ الموقف الواضح والمباشر. وإذا كان البعض يخشى أن يؤدي ذلك الى انقسامات، فإن الحل واضح وبسيط: الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون النسبية، لأن هذا الشعار هو الوحيد الذي لن يفرض انقساماً حاداً بين المشاركين، وسيجذب المزيد من القواعد الشعبية، وسيفتح الباب أمام تغيير حقيقي في تركيبة السلطة الحاكمة.
لا مجال لعنوان آخر: الانتخابات الآن!