حتى عام 1995، لم تتجاوز نسبة الاقتطاع الضريبي في لبنان من مجمل الناتج المحلي 9%، أي أقل بكثير من الدول النفطية المستغنية بريوعها، ووصلت نسبة الاقتطاع إلى ذروتها عام 2010، محقّقة 17% من الناتج، قبل أن تنحدر من جديد لأسباب اقتصادية وإدارية شتى. وحتى لو نجحنا في تحقيق الضرائب المقدرة في مشروع موازنة 2018 (وهي أكثر بقليل من 9 مليارات دولار)، فستبقى الإيرادات العامة الضريبية وغير الضريبية أقل من 22% من الناتج، أي أقرب إلى معدلات الدول ذات الدخل المنخفض وأقل من الدول ذات الدخل المتوسط. والأمر نفسه بالنسبة إلى اشتراكات الضمان الاجتماعي البالغة في لبنان 2,6% (وهي هدف دائم لمحاولات الخفض) في مقابل 4,2% في البلدان المماثلة. ولدينا إحدى أدنى نسب ضرائب الدخل الشخصي مقارنة بالدول الأخرى، والمقدرة بـ 0,8% من الناتج مقارنة بـ 2,3% في الدول العربية غير النفطية و8,9% في دول منظمة التعاون والتنمية OCED.
مشكلة اقتصاد سياسي
المشكلة في جوهرها هي مشكلة اقتصاد سياسي أكثر من أي شيء آخر، فنظامنا الضريبي، كما أنظمتنا المالية والاقتصادية الأخرى، لا يعبر عن تراكم مخرجات الصراع الاجتماعي، بل كان حصيلة تسويات تمليها أوضاع سياسية ظرفية. لم يكن للضرائب بنظر صانعي السياسات في لبنان وظيفة واضحة، هي مجرد جباية تتسع في المساحات الاجتماعية/ السياسية الرخوة وتنكفئ عن غيرها، وفق منطق معكوس مفاده فرض الضريبة حيث يمكن لا حيث يجب. وبذلك لم يعد غريباً أن توضع الضرائب في خدمة الدين العام، فتفوق مدفوعات الفائدة كتلة رواتب وأجور القطاع العام وملحقاتها حتى بعد زيادات الأجور الأخيرة، وتصل هذه المدفوعات في بعض السنوات إلى مرة ونصف مرة من قيمة الواردات الضريبية، وهي لا تقل الآن عن 60% منها، في مقابل أقل من 10% للإنفاق الاستثماري.
وطوال عقدين من الزمن تقريباً، كان التحفيز السياسي للدين العام واضحاً وانعكاساته قوية على وتيرة نموه، إنّ مجموع ما تحملناه من دين عام إضافي للأسباب السياسية*، المرتبطة بفشل النظام تارة، وفساد السلطة تارة أخرى، لا يقل عن ثلث هذا الدين في السنوات 1992 ـــ 2005، وتلامس هذه النسبة النصف إذا احتسبنا الفوائد المبالغ بها على سندات الخزينة، والتي استفاد حمَلَتها من موقعهم القوي داخل النظام آنذاك لجني عائدات وأرباح طائلة وغير مبررة.
ضريبة بلا وظيفة
إن الانشغال بامتصاص كلفة الدين العام، والإنفاق المخصص لاسترضاء الجماعات ومراكز القوى في النظام والدولة والمجتمع، والسعي إلى أعلى مردود ضريبي بأسرع وقت وأقل جهد وأدنى إصلاح، أفقد الضريبة في لبنان أدوارها الثلاثة: التوزيعية والتمويلية والاقتصادية.
خسرت الضرائب دورها التوزيعي (أي دورها في إعادة توزيع المداخيل والثروات)، واستبدلت بآليات التقاسم المناطقي والسياسي، الذي اقتصرت مساحته على الإنفاق الاستثماري وبعض جوانب الإنفاق الجاري (بما في ذلك الرواتب والأجور).
يتبيّن من تحليل بيانات الدخل في لبنان، قَبل الضريبة وبعدها موزعة على ست شرائح (من أقل من 6 ملايين ل. ل. سنوياً إلى أكثر من 120 مليوناً للدخل والإنفاق سنوياً)، أنّ الأثر الإجمالي للضرائب المباشرة وغير المباشرة على اللامساواة هو تراجعي، أي أنّها تزيد فجوات الدخل بدلاً من خفضها. تظهر بيانات أخرى أن معدلات الفقر النقدي ارتفعت في جميع المناطق، بما فيها العاصمة والمنطقة المركزية، بينما تقلصت إلى حد ما الفروق المناطقية على صعيد التجهيزات العامة. كان التوازن الطائفي/ السياسي هو المعيار المؤثر على توجيه أنظمة التوزيع في لبنان، وليس الحاجات الاجتماعية والاقتصادية. ربما نجح ذلك في الحدّ نسبياً من بعض مظاهر التمييز الإنمائي، لكنه جعل الضخ المتواصل والمتزايد للأموال المهدورة طريقة لا مهرب منها للحفاظ على استقرار النظام وديمومته.
فقدت الضرائب أيضاً دورها الاقتصادي في تنشيط الاقتصاد وتوجيهه. ارتُضي أن يقوم مصرف لبنان بالدور المفترض أن تؤديه المالية العامة. خصص البنك المركزي رزماً تحفيزية ضخمة لتعزيز النمو ومد القطاعات الاقتصادية بالتمويل اللازم، فبلغت أكثر من 5 مليارات دولار في السنوات الأخيرة فقط. صحيح أن أكثر من ثلثي هذا التمويل خصص للقطاع العقاري، وصحيح أيضاً أن الإجراءات النقدية كرفع الفوائد وامتصاص السيولة أضعفت مفاعيله الإيجابيّة، إلا أنه ساعد بطريقة ما على تغطية النقص في المجالات المذكورة وتلبية حاجات مستحقة. لكن هذا يتجاوز أهداف السلطة النقدية، ويحتاج إلى بنية سياسية وتشريعية واقتصادية ـــ مالية معقدة لا تمتلكها هذه السلطة. ثم إن تعاظم الدور الاقتصادي ـــ التمويلي للبنوك المركزية يضخم في الوقت نفسه حضور الهيئات غير المنتخبة في اتخاذ القرارات في مسائل حيوية.
ويظهر الحياد الإنمائي للضريبة في لبنان من خلال مؤشرات عدة، منها مثلاً تراجع نسبة الإنفاق الاستثماري العام من مجموع الإيرادات الضريبية من حوالى النصف أواسط التسعينيات إلى أقل من 7% عام 2015. ولن تتخطى هذه النسبة 10% حتى لو حققت الحكومة ما هو مقدر من نفقات استثمارية في موازنة 2018.
فقدت الضرائب أيضاً دورها التمويلي. الإيرادات الاستثنائية كانت ولا تزال الجزء الأكبر والمتزايد من الموازنة العامة، والتي تغذي دون انقطاع ديناً عاماً ضخماً يصل إلى ضعف الناتج، إذا أضفنا إليه المديونية الصافية لمصرف لبنان والديون الخارجية المعقودة بقوانين واتفاقات منفصلة عن قانون الموازنة العامة والمتأخرات المستحقة للمقاولين والمتعهدين وغيرهم.
يقدر الجهد الضريبي Tax effort في لبنان بـ 0,5 فقط، أي أننا نجمع نصف الإيرادات الممكن تحصيلها، وذلك مقارنة بجهد ضريبي يبلغ 0،55 في الدول المتدنية الدخل و0,64 و0,76 في الدول المتوسطة الدخل والمرتفعة الدخل على التوالي، فلو كان الجهد الضريبي مماثلاً للمغرب وتونس (الجهد الضريبي فيهما 0,76 و0,75 على التوالي) لأكسب ذلك الخزينة العامة ما لا يقل عن 3 مليارات دولار سنوياً، حتى من دون أي زيادة في معدلات الضريبة.
الإصلاح الضريبي والإصلاح السياسي
تتردد عبارة إصلاح النظام الضريبي باستمرار، لكن لم تُتخذ حتى الآن خطوة حاسمة في اتجاهه. يتذرع المترددون بأمرين: الأول هو أن إصلاح الضرائب يقتضي إجماعاً وطنياً معقولاً. وهذا غير صحيح وغير ممكن. لم يحظ تعديل قانون الضريبة نهاية عام 1993 بأي إجماع، وكذلك فرض الضريبة على القيمة المضافة، وإخضاع البيوعات العقارية والفوائد التي تتلقاها المصارف، بل أتى كل ذلك في سياق انقسامي وفي ظل صراعات اجتماعية متشابكة، ولولا ذلك لم تُرغم قوى مالية واقتصادية وازنة على تقديم تنازلات لأطراف كانت دائماً في موقع تفاوضي ضعيف.
الذريعة الثانية: هي أن إدخال تعديلات جزئية ومتفرقة على النظام الضريبي، قد يغني عن إصلاحه إصلاحاً شاملاً.
وهذا أيضاً غير صحيح. تفقد الضرائب جزءاً لا يستهان به من جدواها المالية وفعاليتها الإصلاحية إذا أتت خارج مشروع اقتصادي ـــ مالي متكامل ذي عمق سياسي. فعلى سبيل المثال، كانت الإجراءات الضريبية المرافقة لتعديل سلسلة رتب ورواتب موظفي القطاع العام أفضل من سابقاتها، وراعت إلى حد كبير المقدرة الضريبية للمكلفين، ومسّت مطارح ضريبية نعمت تاريخياً بإعفاءات كبيرة، وساهمت السلسلة وضرائبها في زيادة حصة الأجور من الناتج المحلي بما لا يقل عن نقطتين مئويتين. لكن إعادة التوزيع المعاكسة سرعان ما أطلّت برأسها من بين أطلال أزماتنا المالية والاقتصادية وفوضانا السياسية، إن من خلال رفع الفوائد المصرفية وتجميد قروض مدعومة، أو عبر الهندسات المالية التي منحت المصارف عائدات إضافية ضخمة يساوي مجموعها كل ما ستدفعه المصارف من ضرائب على اكتتاباتها في سندات الخزينة خلال السنوات العشر المقبلة.
لا مفرّ من المواجهة بين الراغبين في الإصلاح وشبكات المصالح المعرقلة له
هناك على أي حال علاقة جدلية يصعب تفكيكها بين إصلاح النظام الضريبي والإصلاح السياسي والإداري والمالي بصفة عامة. وهذا ليس غريباً ما دام أنّ الضريبة هي أحد المنطلقات التاريخية التي مهدت لظهور الدولة الحديثة. فالمواطنون الذين يدفعون الضرائب ينشطون في مراقبة النفقات الحكومية التي يمولونها، ويحركون ديناميات المشاركة السياسية ويوسعون قاعدتها. لم يظهر هذا السياق في لبنان بسبب طبيعة العلاقات السياسية بين الدولة والمجتمع، التي تركز على كيفية توزيع النفقات لا على طرق جمع الإيرادات، بل إنّ المنظومة التوافقية قد اتسعت أكثر من اللازم لتشمل مجالات وقضايا لا ترتبط بمصالح الجماعات المكونة للسلطة.
تلتقي معظم الأبحاث والدراسات على أنّ حصر اتخاذ القرار بالنخب المالية والاقتصادية العليا، يؤدي إلى ظهور أنظمة ضريبية لا تراعي الطبقات الدنيا، فتنتشر الفوضى ويسود الحنق الاجتماعي، وترتسم علاقة دراماتيكية خطيرة بين النمو والفقر وعدم المساواة. وحسب العديد من التجارب، يتحقق الاستقرار وتتحسن مستويات المعيشة من طريق الإصلاحات الضريبية، فيما يرتب خفض الإنفاق العام مخاطر جمة على الفقراء.
إنّ إعادة توزيع الثروة والدخل هو مدخل لا بد منه لإعادة توزيع السلطة على أسس أكثر توازناً، والعكس بالعكس. فقد ساهمت آلية تمويل الدين العام المستندة الى نظام مالي وضريبي غير متوازن، في تركيز السلطة الاقتصادية والمالية/ النقدية في أيدي قلة ضعيفة التمثيل، وذلك على حساب الهيئات الممثلة، فتقلصت بذلك القاعدة الديموقراطية للنظام ككل. هكذا يصير ممكناً أن نفهم لماذا يسكن مشروع الضريبة الموحدة على الدخل أحد الأدراج، ولماذا تضخمت وظيفة السياسة النقدية إلى هذا الحد، وهي التي باتت تتحكم بإعادة توزيع ما لا يقل عن 20% من الناتج المحلي، ولماذا هذا التلكؤ المزمن في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإطلاق الاقتصاد من أسر القيود الاحتكارية والريعية التي يغرق فيها.
المطلوب من أي إصلاح ضريبي هو أن تستعيد الضريبة أدوارها الثلاثة المفقودة. مالياً من خلال تحسين الإدارة والجباية والتخلص من الإعفاءات غير المبررة، ما يقلص العجز المالي بضع نقاط مئوية من الناتج، واقتصادياً بجعل الضريبة أداة ذكيّة لتوجيه القطاعات الاقتصادية وتفعيلها نحو الأهداف المخطط لها ضمن مقاربة قائمة على الدعم والحماية والإعفاء المشروط. أمّا اجتماعيّاً، فإنّ التوازن الضريبي هو المدخل الذي لا غنى عنه لتقريب المسافة بين الفئات الاجتماعية وتضييق الفجوات الطبقية وتعقيم أثر الانحرافات المتراكمة في الممارسات الاقتصادية. وهذا لن يكون ممكناً ما لم يندرج في سياق إصلاح متعدد الأبعاد والمسارات، وضمن عملية سياسية معقدة، تنطوي على انقسامات وصراعات وتجاذبات يتواجه فيها الراغبون في الإصلاح من جهة، مع شبكات المصالح المعرقلة له من جهة ثانية.
* كلفة العامل السياسي للدين العام هو مجموع مؤشرين (1992 ـــ 2005): العجز الزائد الذي يساوي 8300 مليار ل. ل. + الإيرادات الفائتة نتيجة تدني الاقتطاع الضريبي قياساً إلى المعدلات التي سجلت في سنة 2005 وما بعدها. وتقدر هذه الإيرادات بـ 11 ألف مليار ل. ل. أي ما يوازي مجموعه 13 مليار دولار أميركي. وتتضاعف الكلفة إذا احتسبنا قيمة الفوائد الزائدة في المدة عينها، والتي تضاهي هذا المجموع أو تزيد عنه.