«هيا اترك باريس فوراً والتحقْ بنا، وإن قلّ مالُك فلا تتردّد بسرقة أي شيء، من أيٍّ كان والتحِقْ بنا، يا لها من شمس، من سماء، من روابٍ، من كلّ شيء! آهٍ لو كنت تدري!...آن الأوان لكي تأتي، فأسرِعْ، إذ بعد قليل لن يبقى هنالك شرق»: بهذه الكلمات من رسالة بعث بها الأديب الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير إلى صديقه الأديب تيوفيل غوتييه، يبدأ الكاتب حسن حمادة مقاله الافتتاحي في العدد الجديد من مجلة «تحولات مشرقية» (تشرين الثاني/ نوفمبر 2022). العدد رقم 29 حمل لوحة لمعبد ياباني قبالة جبل مغطى بالثلوج مع عنوان «وداعاً شينزو آبي» في إشارة إلى رئيس الوزراء الياباني السابق الذي جرى اغتياله يوليو (تموز) الفائت. كما حمل الغلاف عنوان مقال حمادة: «من تهجير الموارنة إلى تهجير كل اللبنانيين»، إضافة إلى أسماء كتّاب العدد الفصليّ: إيلي جرجس الياس، حبيب البدوي، سليمان نواف سويد، أيمن محمد غريب، بلال جدوع الجبوري، رياض نبيه مخول، وهنادي شمّوط.
جميل ملاعب ــ «القدس بالأزرق» (زيت على كانفاس ــــ 100 × 100 سنتم)

من جملة فلوبير الأخيرة اللافتة «بعد قليل لن يبقى هنالك شرق»، ينطلق حمادة لتفسير المبررات المفترضة لزوال «الشرق» الذي أدهش كوكبة من الأدباء الغربيين ومنهم فلوبير وغوتييه ولامارتين ولوتي ودونرفال وغيرهم. يفترض حمادة أنّ لامارتين الذي شغل عام 1848 منصب وزير خارجية فرنسا، قد أطلع صديقه فلوبير على المخططات والدراسات المتعلقة بمشروع اقتلاع موارنة لبنان من جذورهم ونقلهم إلى الجزائر لكي «يتم استخدامهم كرديف للجيش الفرنسي مهمته مقاتلة أصحاب البلاد الأصليين كلما انتفضوا أو تمردوا على سلطات الاستعمار». فرضية يدعمها حمادة بما جاء في كتاب الباحث سركيس أبو زيد «تهجير الموارنة إلى الجزائر» (دار أبعاد ــــ 2022) ليستنتج حمادة بعد استعراض جملة من ألاعيب ديبلوماسية وسلوكيات الانتداب الفرنسي في المشرق، أنّ ما طبع العلاقات الفرنسية اللبنانية عموماً، والعلاقات الفرنسية مع المرجعية المارونية خصوصاً، هو وجود مخادع ومخدوع، هذا لبناني وذاك فرنسي. برأيه، طمحت المرجعية المارونية إلى الانصهار بفرنسها التي لم تشاركها هذه الرغبة، إذ إن هذه المرجعية لم تمتلك الأدوات المعرفية لسبر الواقع الفرنسي، خلافاً للحكومات الفرنسية الملمّة إلماماً كاملاً بالمرجعية المارونية داعياً في نهاية المقال ـــــ وعلى هدي كتاب أبو زيد ـــ إلى «إعادة النظر في خياراتنا وسياساتنا وطريقة تفكيرنا، الذي تعطّل بفعل الدوران المتواصل في حلقة الطوائف والمذاهب على حساب الإنسان».
حمل المقال الثاني عنوان «الامبراطورية اليابانيّة خلال الحرب العالمية الثانية: الجرأة العسكرية الطاغية والرؤية السياسية الداهية»، وهو بحث أكاديمي للكاتب إيلي جرجس الياس المتخصص في التاريخ والديموغرافيا والمحاضر في الجامعة اللبنانية. جال الياس على التاريخ السياسي والعسكري الحديث لليابان منذ الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي استسلمت فيها امبراطورية الشمس بعد إلقاء القنبلتين الذرّيتين عليها، فيستعرض الياس في أكثر من ثلاثين صفحة جدليات السياسة والاقتصاد ودورها في القرارات الحربية لليابان «المحارِبة» لتغذية الطموحات الإمبريالية، والاستراتيجية اليابانية في مواجهة الأميركيين ولا سيما في المحيط الهادئ، ثم الهزيمة الساحقة وعودة اليابان المهزومة إلى مسار التفوق الاقتصادي والمالي بعد عام 1946 واجتراحها معجزة اقتصادية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بدعم أميركي واسع ومطلق. الباحث حبيب البدوي أضاء على إنجازات رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي (1958-2022) الذي قضى طيلة الصيف الفائت في ظروف غامضة، إذ بحسب البدوي «إنّ إرث الراحل شينزو آبي هو مقاربة إنسانية لا تقتصر على الشعب الياباني وحده، فمبادرة «التعليم يصنع الإنسان» هي استراتيجية لكل أمّة ترغب في نهضتها، ولشرقنا الاستفادة من تلك السياسة التعليمية الرشيدة لتكون أجيالنا الراهنة هي مستقبلنا الموعود». عرّج البدوي على أبرز المحطات في تاريخ آبي، ومساهمته في مداواة الركود الاقتصادي في بلاده خلال تولّيه المنصب الحكومي الأول بين عامَي 2005 و 2006، ليتابع المسيرة في الفترات اللاحقة بين عامَي 2012 و2022، مع قيادة استراتيجية ناجعة في مواجهة العملاق الصيني المنافس، وعدم مساومته على التاريخ الياباني من خلال الوفاء لذكرى الجنود اليابانيين الذين قضوا نحبهم دفاعاً عن الوطن في الحرب الثانية.
الباحث سليمان سويد أضاء في بحثه على «التسامح الإسلامي في الأندلس: صوَر ونماذج»، منطلقاً من يقينية أنّ التاريخ الإسلامي ولا سيما في بلاد الأندلس، قد انطوى على مبادئ قوية للتسامح والتعايش وإقامة العلاقات الودّية بين الشعوب بمختلف انتماءاتها الدينية والعرقية والمذهبية، وأعطى الإسلام عهود الأمان لغير المسلمين في ظل الإسلام، وعاش النصارى واليهود جزءاً لا يتجزّأ من كيان المجتمع الإسلامي في الحقوق والواجبات. قسّم سويد البحث على محاور ثلاثة: مظاهر التسامح مع اليهود والنصارى، أثر التسامح على اليهود والنصارى، ودور حكّام الأندلس في صفوة التسامح بين الأديان. دراسة طالب الدكتوراه العراقي أيمن محمد غريب حملت عنوان «التحامل اليهودي والاستشراقي ضد نبي الإسلام وقرآنه الكريم». بعدما فنّد غريب محاولات المستشرقين في النيل من نبيّ العرب، وكتابهم المقدّس ولغة الضاد، خلص إلى أنّ هذا الثالوث الحضاري لم يُهزم بعد، وأنّ نصر رجال المقاومة الوطنية والإسلامية في الجنوب اللبناني هو انتصار مفاهيمي وحضاري في المقام الأول، يوجّه ضربة للاستعمار ومن خلفه دعامته الفكرية الاستشراقية.
طمحت المرجعية المارونية إلى الانصهار بفرنسها التي لم تشاركها هذه الرغبة


الطالب العراقي الآخر بلال جدوع الجبوري ناقش «الإرهاب الصهيوني بعد اتفاقية سايكس-بيكو» وقيام الكيان الصهيوني، مستعرضاً التاريخ الاستعماري الطويل في تقسيم المنطقة وشرذمتها بالترافق مع مشروع «إسرائيل الكبرى» بحسب مخطط قدّمه المستشرق برنار لويس إلى الكونغرس الأميركي عام 1983، ليستنتج الجبوري أنّ «أي اتفاق لا يمكن أن يشطب فلسطين من تاريخ منطقتنا وجغرافيتها، كما يستحيل عليهم شطب عروبتها وإسلاميتها من التاريخ والجغرافيا والمصير والمستقبل لأن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه». الكاتب والباحث رياض نبيه مخول كتب بحثاً أدبياً مهماً حول «الصراع بين المنطق والنحو والمصالحة بينهما: مناظرة السيرافي ومتّى نموذجاً»، مشرّحاً إحدى أشهر مناظرات القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في جدلياتها وقيمتها النحوية والمنطقية والتاريخية، بحيث جاءت لتطرح أكبر إشكالية بين النحو والمنطق في زمن راجت فيه أفكار المنطق بين الناس على تنوّع أديانهم في الثقافة العربية، ما حدا بأنصار النحو من العرب ــــ نتيجة تخوفهم من هذا الانتشار ـــ إلى التصدّي لهم بعلمائهم، معتبرين ذلك خطراً يتهدد اللغة والنحو. المقال الختامي خصصته الكاتبة والناشرة هنادي شموط لمسرحية «خلص، ما عاد في شي» للكاتب والمفكّر اللبناني نصري الصايغ، فتصفها بأنها «مسرحية من النوع التراجيدي المضحك المبكي بكل ما يوحيه لك العنوان من فقدان للأمل. وهذه السوداوية التي تتلبس شخصيات وكلمات المسرحية، يسبر فيها الكاتب خفايا النفس الإنسانية التي تظهر على سلوكها، وردود أفعالها تجاه مواقف الحياة».