يُدركُ بالبديهة الوعيُ الاعتباري للروائي اللبناني عبد المجيد زراقط، الذي ما انفكّ يقدمُ توظيفاً خاصّاً لثقافة الإنسان الجنوبي ببُعدها المُقاوم بالفطرة، وبطريقة فنية متحرّرة من المسبقات الميتافيزيقية باتجاه حركية الواقع المادي الحميم التي لبِستْ مجموعة الشخصيات المكوّنة لروايته الجديدة «طاحونة الذئاب» (مركز ليفانت للدراسات والنشر - الإسكندرية). يكثّف زراقط أنطولوجيا الثابت من نتاجه الروائي حتى الآن نهجاً وفهماً، جاعلاً من قضية الأرض والهوية والكرامة والطموح مجازاً مفتوحاً لشعرية السرد في الرواية اللبنانية الجديدة. تنعقد الفكرة هنا لمرحلة كان الجنوب اللبناني فيها متروكاً لمصيره مع حدث مهم جداً في التاريخ والجغرافيا والعقل والوجدان هو هزيمة حزيران عام 1967. بنى عليها خطابه السردي كمسألة قومية ووطنية ومع شخصية مجبولة بالقيم هو الأستاذ المتحدّر من عائلة فلاحين متعلقة بالأرض: الخلوق، المثقف، الثوري، والشاعر الذي تعلوه طبيعة الأكابر، والذي انخرط في صراع طبقي، اجتماعي، سياسي بين فريقين في قريته الجنوبية النائية، ينتميان إلى طبقة اجتماعية واحدة في مستوى التعليم والعمل والثقافة وطريقة الحياة التي تعيشها، لكنها تختلف في الغنى والفقر إلى حد ما، وفي المبادئ إلى حدّ المواجهة: الأول هو الوطني بقيادة الأستاذ وبعض الرفاق. يؤمن بمهمته المقدّسة في مواجهة أرباب الاستغلال والتهميش والحرمان والعمالة ممن سّماهم المؤلف «الذئاب». والثاني هم الذئاب أنفسهم، وكان «البيك» واجهتهم ورأس حربتهم. شكّل الأستاذ ورفاقه فريقاً نهضوياً يعتنق فكرة المواجهة كمبدأ طليعي في مواجهة أشخاص الطرف الآخر الذين احتوتهم «طاحونة الاستبدادات» كما أسماها الراوي تيمّناً بطاحونة العم «أبو إبراهيم»، فكانوا كياناتٍ وأفراداً: الصهاينة الذين كانوا يغزون القرى المحتلة الحدودية ويعتقلون شبابها بين الحين والآخر إلى البيك، الوجه الآخر للسلطة وممثل الطغمة الحاكمة بنفوذها وأزلامها التي تمنع عن القرية الكهرباء والماء والمدارس والرعاية والطرقات غير المعبّدة واستصلاح الأراضي ، و«أبو شكيب» زلمة البيك الذي هو أيضاً عميل للمخابرات، يسمعونه ويصدّقونه، إلى إدارة شركة الريجي، إذ تتحكم بأثمان التبغ الذي ينتجه المزارعون بل تحدد لهم المساحة المسموح بزراعتها. وهناك «أبو أمين» والد أمينة هو ذئب آخر حرم الأستاذ منها وحرمها منه مهاجراً بها مع عائلته إلى بلد اشتراكي لتكمل تعليمها هناك، وصولاً إلى مدير المدرسة وناظرها وأساتذتها الذين باتوا يخافون البعد التغييري الذي يريد الأستاذ أن يحدثه فيها. في محتوى السرد، يثبت زراقط المستمسكات التاريخية والاجتماعية الموثّقة التي تؤكد رذالة كل أولئك الذئاب بأفعالهم الشائنة التي لطالما اشتدّت على أهل القرية وأثقلت الأستاذ بِأَرَقِ أسئلة المصير والوجود التي فرضت نفسها فكانت لا تفارقه: من يعيد حسين أبو علي المخطوف عند العدو الإسرائيلي إلى أهله؟ من يجلب لقريتنا المحرومة ما تطالب به بدءاً بالمدرسة والمياه والكهرباء والزفت لتعبيد الطرقات والتلفون وليس انتهاء بالضغط على شركة الريجي لإنصافهم بثمن محاصيلهم من التبغ؟ وماذا يفعل الشطار في بلادنا عندما تقوى الذئاب؟ وماذا يقول لي والد أمينة التي أحب عندما يرى قريتنا وبيوتنا؟ كانت تلك الأسئلة تتوازى في خاطر الأستاذ مع إيمانه بفعّالية الارتقاء الجوهري بالفكرة الإنسانية التي تعيد بناء المعنى الوطني لمجتمعاتنا، والتي ترتفع بنا من سمات محدودية القربى بصيغها العائلية العشائرية أو المحلية المناطقية إلى أمداء الانتماء الوطني الكبير. باقي الشخصيات المؤيدة للأستاذ لم تتأخر عما يفكر فيه بشكل دؤوب وكل على طريقته، بأصواتها ووسائلها ووجهات نظرها، وهي التي غُبنت في وطنها وأرضها عيشاً وكرامة. فرفاق الأستاذ كحسان وإبراهيم عمشة وحسين أبو علي وعلاء وإبراهيم، أبو حسن، أبو نايف، مزارعي التبغ، والفدائيين وغيرهم كثير... هؤلاء هم المناهضون للذئاب وظلمهم، والمنخرطون في حب الأرض والدفاع عن الوطن، الطالعون من أعماق الجنوب اللبناني ومداهم العروبي فلسطين، رافضين العيش خارج جذورها على الرغم من كل التحولات الصعبة التي تمر عليهم في الرواية من الاحتلال إلى استغلال البيك إلى انتهازية الريجي ومسؤوليها. كل واحد منهم هو محور آمال وآلام، وذروة شهوة طليقة تنتفض على واقعها حتى لا تظل مغلوبة على أمرها في مواجهة جماعة تمارس ظلماً فاقعاً بروح انتهازية صارخة وأفعالٍ فاجرة. من أجل ذلك، فإن زراقط لم يطوق شخصياته بأفكاره الخاصة لأنها لم تكن بحاجة أصلاً إلى ذلك، فهي مكوّن حيّ موجود في وطننا العربي الكبير وبمستويات مختلفة، يقفز فوق الحواجز الطائفية والطبقية، جهدَ في أن يوزع نفسه بينها على الرغم من اختلاف مواقفها وآرائها وتكوينها النفسي بين من يبحث عن الحب والحرية والعدالة ومن يمارس التسلّط والاستغلال وأساليب القهر، فكانت سواء في القيمة الفنية تحت سقف المبنى الحكائي المجرد للأحداث. أدرك زراقط وجوب أن يرسم سيكولوجية شخصياته العميقة بمعنى عفويتها وتلقائيتها قولاً وفعلاً، بل حاول أحياناً أن يبدي للقارئ وجه الموازاة بينها في الحضور المشهدي على امتداد صفحات الرواية. بعض الشخصيات، على ظهورها النادر، كانت أكثر حضوراً من غيرها في وجدان القارئ بعدما أجرى زراقط على لسانها الشعر والحكمة والأمثال الشعبية وبعض الطرائف وأغاني الدبكات القروية، تاركاً لها حرية التفكير والتعبير اتفاقاً أو تضاداً، مبرزاً رأيه خلالها، كخلاصة لما أراد قوله بالمعنى الواسع للرؤية العامة للرواية كأن يقول على لسان والد الأستاذ: «حالنا مثل حال كل العرب، نحن أيضاً فقدنا أرضنا منطقة شرقي الطريق العام المحاذية للحدود الفلسطينية، لم نعد نجرؤ على الاقتراب منها. أرضنا راحت مع ما راح من أرض العرب، استولى عليها الصهاينة كأننا في سجن كبير ... كبير»... أو أن يؤنب الجندي الإسرائيلي المحتل لأرضه على لسان حسين أبو علي: «وبيناتنا بلاد اغتصبتوها وقتلتم وشردتم أهلها... لا ما نسيت، ولن ننسى». من هنا جاءت المادة الحكائية في الرواية أكثر حفراً وتأثيراً بصورها ولوازمها ومفارقاتها في تأكيد توازي أهمية تلك الشخصيات بكوامنها وأهوائها وغاياتها، ما جعل الروائي يدخل من شخصية ويخرج من أخرى مهما كانت فاعلية حضورها، ينتهي من الأولى عندما يشعر بأنه استنفدها لمصلحة مشهد سردي ليتحول إلى استنطاق غيرها، سواء في المشهد عينه أو مشاهد أخرى بما لا حاجة فيه إلى التأكد من حتمية زمنها الواقعي وبمهارة لغوية لم تتنكّب اللهجة المحكية لتضفير الحس الواقعي للحوار. لكن كل ذلك لم يمنع زراقط من تماهيه بمنظور داخلي وفيّ وعميق مع الأستاذ، الشخصية المفضّلة لديه أو الراوي العليم الذي ألبسهُ ضمير الأنا، المتكلم، تعليقاً وتأويلاً، متنكّباً عن الانتقال إلى ضمائر أخرى. ربما لم يجدر بزراقط أن يدلل سارده العليم الى هذه الدرجة التي لم يعد بالإمكان معها أن نصدق أن المسرود ليس سيرة ذاتية وليس حتماً رواية الصوت الواحد، التي وثّقَ بها حضوره الإنساني رؤية وموقفاً في لحظة تاريخية نضالية تعالقت مع الذات باختلاطٍ جماليّ ظل ممسكاً بالحد الفاصل بين السيرة والرواية على طول خط المتخيّل السردي. فالأستاذ هو مفتاح التحكم بخطاطة السرد والتدخل في دفقها بين الخاص والعام، عانى من الذئب الطائفي وقد منعه من الارتباط بحبيبته أمينة لخلاف مذهبي، وساعد الفدائيين لوجستياً في عملياتهم ضد العدو الإسرائيلي مردّداً على الدوام: «القضية قضيتنا»، وهو الذي تآمر الذئاب في سبيل إبعاده عن مدرسة القرية المهملة التي كان يرى إلى تطويرها، إلى قرية نائية وتعيينه هناك: «ولكن ماذا كنت أستطيع أن أفعل ولا واسطة لي؟ المعثّر من لا واسطة له في هذا البلد... تأكله طاحونة الذئاب... الذئاب تقوى عليّ... وأنا كما قال الياس أبو شبكة: عصفور صغير... ماذا يستطيع أن يفعل عصفور صغير؟!»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا